حكومة الصُّهرَيْن: ثقة باسيل مقابل الثلث “المقنّع”

مدة القراءة 5 د

بعد مرور 13 شهراً على استقالة حكومة حسان دياب، وبعد اعتذاريْن متتاليين لكلّ من مصطفى أديب وسعد الحريري، تُليت مراسيم حكومة نجيب ميقاتي لتخرج بصعوبة فائقة، ستُسجّل دقائقها في كتب التاريخ، من رحم التعقيدات اللبنانية ومصائبها التي توالت مذ فُتِحت أبواب جهنّم على مصراعيها.

أمّا التدقيق في الأسباب التي أجّلت الولادة، فيُغرِق الباحث في متاهة حقيقية من العِقَد التي يختلط فيها المحلّي بالخارجي. ومع ذلك، لا يمكن لأيّ عاقل أن يصدّق أنّ مصير شعب بكامله كان يقف على كفّ عفريت حقيبة من هنا واسم من هناك. ولا يمكن له أن يقتنع بكلّ الأسباب التي كانت تُساق في إطار الصراع الخفيّ على توازنات حكومة ما بعد العهد، أو ما يُعرف بالثلث المعطِّل، الذي يُحمَّل مسؤولية تعطيل التأليف وتأجيله، إلى حين بتّ مصيره.

بدا ميقاتي مقتنعاً لا بل واثقاً من أنّ دخول الأميركيين، وإلى جانبهم الفرنسيين، مدعومين بخطّ التواصل مع الإيرانيين، على الجبهة اللبنانية، من شأنه أن يفتح أمامه الأبواب الموصدة

ذلك لأنّ سؤالاً جوهريّاً فرض نفسه على طاولة البحث: إذا كانت الحصّة العونية، سواء تألّفت من ثمانية أو تسعة وزراء، وتضمّ في صفوفها وزيراً درزياً محسوباً على النائب طلال أرسلان، ووزيراً أرمنيّاً محسوباً على الطاشناق، فهل يلتزم الوزيران الدرزي والأرمني بالبطاقة الحمراء التي سيرفعها باسيل إذا ما قرّر دفع الوزراء المحسوبين “شكلاً” على رئيس الجمهورية، و”فعلياً” عليه، إلى الاستقالة من دون حلفائه، وتحديداً “حزب الله”؟ أم يفضّلان أن يحسبا حسابات بقيّة الحلفاء؟

هو سؤال معقّد لن يكون من السهل الإجابة عليه وحسمه منذ اليوم.

مع ذلك، ثمّة مَن كان يحاول إقناع اللبنانيين بأنّ لقمة عيشهم المغمّسة بذلّ يوميّ أمام محطات الوقود والأفران وفي بحثهم المضني عن حبّة دواء أو فرصة عمل، معلّقة على حبل ثلث معطِّل، لا يفهمون بماذا سينفعهم في حال وضّبوا حقائب الهجرة، أو لاقوا حتفهم على مدخل مستشفى، أو فقدوا أيّاً من أحبّائهم…

فعلاً هو القعر. فأحكام الجحيم أرحم من ضمائر الحاكمين بأمر مصالحهم لا أكثر!

عودة ميقاتي

عاد ميقاتي إلى السراي الحكومي. فعلها الرجل، وهو الذي قرّر إقحام نفسه في معموديّة التكليف مع إصرار استثنائيّ على استعادة لقب “دولة الرئيس”، ولو أنّ مهمّته ستكون شبه مستحيلة وقد “تحرقه” و”تشويه” و”تقلّبه” على نار الانهيار المالي والاقتصادي عشيّة الانتخابات النيابية المقبلة، إذا جرت في مواعيدها. وحدها الحماية الفرنسية، مدعومةً بتشجيع أميركي، دفعته إلى خوض تلك المغامرة. أمّا العِقَد التي كانت تنتظره ويعرفها بالتفصيل، فكانت أشبه بحقل ألغام لا يسمح له بأن يخرج منه سليماً.

مَن جالس الرجل منذ لحظة تكليفه عرف أنّه يفكّر في الطريقة التالية لحلّ الإشكالات التي اختبرها الحريري جيّداً: سيطرح على رئيس الجمهورية ميشال عون، ومن خلفه جبران باسيل الذي حاول التذاكي على الرأي العام ليبعد بصماته عن الحكومة، لكنّه ككلّ مرّة سرعان ما سقط في التجربة، أن يتبادلا الفيتوات في ما خصّ وزيريْ الداخلية والعدل اللذين كانا محلّ صراع بين الفريق العوني والحريري. وسيطرح آليّة موسّعة لاختيار الوزيرين المسيحيّين اللذين يرفض رئيس الجمهورية أن تتمّ تسميتهما من خارج المرجعيّات المسيحية، لتفادي الاشتباك حول الوزيريْن الملكيْن. أمّا اللغم الأصعب فهو الثلث المعطِّل. في الواقع، أكثر مَن كان يخشى من توليفة محبوكة بذكاء تعطي باسيل هذا الثلث، هم حلفاء رئيس الحكومة المكلّف، أي نادي رؤساء الحكومات السابقين الذين كانوا شبه متأكّدين أنّ ميقاتي “يستقتل” للعودة إلى السراي، وقد يقايضها بثلث مموّه في أيّ لحظة بحجج الانهيار والضغط الخارجي.

هكذا، رُسِمت المعادلة: جبران باسيل ضَمِن ثلثاً معطِّلاً، وحبّة مسك فوقه، على عكس ما يدّعيه رئيس الحكومة المكلّف، وبموافقة دولية، مقابل منح “تكتّل لبنان القوي” الثقة، فكانت النتيجة قيام حكومة “الموظّفين” و”رفاق الصهريْن”

فعليّاً، هذا ما حصل. أُسقِط السيناريو المتوقّع كما هو على وقائع التأليف الذي تحصّن ميقاتي من أجله بحسن الكلام والتعاطي مع رئيس الجمهورية ورئيس التيار الوطني الحر لبلوغ مرتجاه، فبدا المشهد الحكومي خلال الأيام الماضية، وعلى أثر اللقاء الـ13 في قصر بعبدا، على الشكل الآتي:

1- بدا ميقاتي مقتنعاً لا بل واثقاً من أنّ دخول الأميركيين، وإلى جانبهم الفرنسيين، مدعومين بخطّ التواصل مع الإيرانيين، على الجبهة اللبنانية، من شأنه أن يفتح أمامه الأبواب الموصدة، من خلال فرض كوّة الثلث المعطِّل على قاعدة منح هذا الثلث ولو بشكل مموّه لرئيس الجمهورية. الأمر الذي دفع حلفاءه السُنّة والرئيس نبيه برّي إلى تنبيهه من مغبّة تقديم أيّ تنازل يكون ما دون السقف الذي وضعه نادي رؤساء الحكومات السابقين، والذي يتضمّن بلا أيّ شكّ استحالة منح جبران باسيل الثلث المعطِّل. وهذا ما أُبلِغ به شخصيّاً، في جلستين متتاليتين، آخرتها ليل الخميس – الجمعة، من جانب رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة الذي زار ميقاتي “منبّهاً”. لكنّ ردّ الأخير كان واضحاً: “ما هو الحل البديل؟ البلد إلى انفجار شامل سيطيح بكل شيء”.

2 – أبلغ رئيس الجمهورية كلّ مَن يعنيهم الأمر: إمّا ثلث معطِّل في الحكومة، أي تسعة وزراء و”طلوع”، وإمّا لا حكومة. فليبقَ حسان دياب في السراي إلى أن يقضي الله، أو الظروف الإقليمية، أمراً كان مفعولا.

هكذا، رُسِمت المعادلة: جبران باسيل ضَمِن ثلثاً معطِّلاً، وحبّة مسك فوقه، على عكس ما يدّعيه رئيس الحكومة المكلّف، وبموافقة دولية، مقابل منح “تكتّل لبنان القوي” الثقة، فكانت النتيجة قيام حكومة “الموظّفين” و”رفاق الصهريْن” (باسيل ومصطفى الصلح، صهر طه ميقاتي الذي كان يفاوض صديقه جبران)، التي قدّمت نفسها، على علّاتها وصورتها الباهتة، خشبةَ خلاصٍ من الغرق الحتميّ.

فمَن يجرؤ أمام اللبنانيّين على الاعتراض ومواجهة ولادتها؟

مواضيع ذات صلة

“إنزال” في البرلمان: التّمديد لقائد الجيش

يترافق سقوط مفاوضات وقف إطلاق النار مع انكشاف أمنيّ وعسكري وسياسي كامل، عبّر عنه بالسياسة النائب السابق وليد جنبلاط بقوله إنّ “آموس هوكستين تآمر علينا…

وقف إطلاق النّار… بين الضّغط الأميركيّ وضغوط الميدان

أُقفِل باب المفاوضات الدبلوماسية لتُترك الكلمة للميدان. بالأساس، لم يكن كبيراً الرهان على تحقيق خرق جدّي قبل أيام معدودة من فتح صناديق الاقتراع في السباق…

نعيم قاسم: هادئ وصلب ومتعدّد المشارب الفكرية

يختلف الشيخ نعيم قاسم عن سلفه السيّد حسن نصر الله، من حيث خصائص الشخصية ومشارب التنشئة، مع أنّ كليهما كانا عضوين قياديين في حركة أمل،…

“الحزب” لرئيس الحكومة: إصرِف من جيْب الحكومة!

بين الميدان وغرف المفاوضات المُحصّنة في تل أبيب و”الثلاثاء الأميركي الكبير”، سقطت الرهانات على وقف لإطلاق النار يسبق فتح صناديق الاقتراع في الولايات المتحدة الأميركية….