ما لا يعرفه كُثُر أنّ رئيس الجمهورية ميشال عون يواجه ضغطاً هائلاً لتأليف حكومة “فوراً”، ليس فقط من الأميركيين والفرنسيين وحزب الله، بل ومن عائلته الصغيرة، وتحديداً بناته الثلاث.
أكبرهنّ، ميراي عون الهاشم، ابتعدت نهائياً منذ نحو سنتين عن الواجهة، وغادرت موقعها مستشارةً رئيسيةً لوالدها براتب ليرة واحدة شهرياً. لكنّها علّقت قرارها بالاستقالة من أيّ مسؤولية رسمية وعلنية حين رافقت والدها، ضمن الوفد الرسمي، إلى نيويورك لافتتاح أعمال الدورة الثالثة والسبعين للجمعية العمومية للأمم المتحدة في أيلول 2019 قبل أسابيع قليلة من اندلاع ثورة 17 تشرين… و”هيّ كانت”، باستثناء التوجّه إلى الكويت لتقديم واجب العزاء بأميرها الراحل.
يتفيّأ ميشال عون حليفاً واحداً ثابتاً هو حزب الله. البقيّة من دون استثناء هم في المقلب المعادي، وضمنهم مَنْ يدّعي وقوفه إلى جانب عون “للآخر”
منذئذٍ لم تتوجّه الطائرة الرئاسية إلى أيّ دولة أخرى عربية أو غربية. بالتأكيد، كان ميشال عون الأقلّ نشاطاً في زياراته الخارجية مقارنة بإلياس الهراوي وإميل لحود وميشال سليمان.
وما لم تسجّله عهود ما بعد الطائف، باستثناء “العهد القوي”، رَصد الطائرة الخاصة لرئيس مكلّف، هو سعد الحريري، تتنقّل بين عواصم العالم على مرأى من رئيس الجمهورية، وزيارة غير مألوفة للسفيرتين الأميركية والفرنسية دوروثي شيا وآن غريو إلى الرياض “للبحث في الملفّ الحكومي”. وفوق كلّ ذلك، يغطّ موفدون دوليون في بيروت و”يبهدلون الكبير والصغير” في ظلّ صمتٍ مريبٍ على الإهانة من أعلى المستويات الرئاسية.
بدا العهد في سنتيْه الأخيرتين معزولاً تماماً. بعد زيارة الرياض وقطر وإيطاليا وموسكو ونيويورك ومصر… أدار المجتمع الدولي ظهره له، مع العلم أنّ فاتحة زياراته كانت إلى السعودية في كانون الثاني 2017 بهدف ترميم العلاقات الثنائية عقب تعليق المملكة هبة الثلاثة مليارات دولار، وهي مساعدات عسكرية للجيش والقوى الأمنيّة مقدّمة من الفرنسيين بتمويل سعودي.
ليست العزلة خارجية فقط. فإذا كان “المَشكل” الأول والأصعب بدأ من داخل جدران البيت الرئاسي بالتحاق كلودين عون وزوجها النائب شامل روكز بسرب المعارضين على خلفيّة ذوبان الرئاسة الأولى في “مشروع” جبران باسيل السياسي، ومعهم مجموعات إعلامية وسياسية وكوادر ابتعدت عن بعبدا بصمت، وأخرى بضجيج، وقبل كلّ هؤلاء قيادات عونية من أيّام النضال “قرفِت وفلّت”، وعلى رأسهم ابن شقيقه نعيم عون… فإنّ “مشكل” صمود العهد حتى آخر ساعة منه هو الأكثر كلفة على “الجنرال” وعنوان معركته الأخيرة.
مَن التقى ميشال عون أخيراً لمس لديه صلابة غير معهودة في رجل، باعترافه، خَسر حتّى الآن حربه الكبرى أمام رجالات “المنظومة”. وحين يُسأل عن تأثير باسيل على قراراته يردّ: “أنا الرئيس، وأنا صاحب القرار الأوحد”
ظلّ الحليف الوحيد
يتفيّأ ميشال عون حليفاً واحداً ثابتاً هو حزب الله. البقيّة من دون استثناء هم في المقلب المعادي، وضمنهم مَنْ يدّعي وقوفه إلى جانب عون “للآخر”. حتّى من بين هؤلاء نواب حاليون في التيار الوطني الحر ووزراء سابقون باتوا يجاهرون بفشل العهد ومسؤولية باسيل عن جرّ “المعلّم” إلى الانتحار، قاصدين رئيس الجمهورية. وهذا ما يفسِّر عدم قبول بعض هؤلاء الظهور في برامج سياسية للدفاع عن سياسات العهد ورئيس تكتّل لبنان القوي.
لكنّ مَن التقى ميشال عون أخيراً لمس لديه صلابة غير معهودة في رجل، باعترافه، خَسر حتّى الآن حربه الكبرى أمام رجالات “المنظومة”. وحين يُسأل عن تأثير باسيل على قراراته يردّ: “أنا الرئيس، وأنا صاحب القرار الأوحد”. أمّا محيطه فينقل عنه قرار عدم الاستسلام مهما كانت الكلفة.
بهذا المعنى، ليس شدّ الحبال بينه وبين الرئيس المكلّف نجيب ميقاتي مسألة أسماء وحقائب فقط، بل معركة وجوده “الأصلية” بعد حربه ضد سوريا “المحتلّة”: التدقيق الجنائي.
يقول عارفوه إنّها “ثاني أكبر معركة يخوضها بعد إقرار قانون الانتخاب. وهو مستعدّ للمواجهة الكبرى في حال أصرّت قوى معروفة على تعديل القانون الانتخابي بما يطيح بالمكتسبات التي أعادت للمسيحيين جزءاً كبيراً من حقوقهم في القانون النسبي”.
وقد تلمّس عون منذ البداية مشروع تواطؤ فاضحاً ضدّه من محور بري-الحريري-ميقاتي بطرح اليد اليمنى والعقل الباطني لرياض سلامة ومدير العمليات في مصرف لبنان يوسف خليل وزيراً للمال.
حتّى اللحظة يرفض ميشال عون الاسم، وهو إحدى القطب الصامتة التي تصعّب ولادة الحكومة، وترفع من منسوب الاحتقان داخل حكومة مطلوب منها أن “تشتغل” بعقل مالي اقتصادي إصلاحي منسجم فيما بينه. وينسحب الرفض على اسم وزير الاقتصاد “إذا كان ممثّلاً لعقل المنظومة الحاكمة”.
أكثر من ذلك، اتّخذ ميشال عون وجبران باسيل القرار معاً باستكمال ما تبقّى من عمر العهد من موقع المعارضة في مواجهة الحكومة ونبيه بري وسعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع، وإذا اقتضى الأمر حزب الله، في كلّ ما يتعلّق بالملفّات الداخلية الإصلاحية.
لا يتردّد “جنرال بعبدا” في تأكيد استخدامه كلّ الأسلحة لمواجهة “مشروع إفشال كلّ ما حاولت فعله منذ عودتي من المنفى”. لكن هل سيسمّي عون بالاسم مَن اتّهمهم قبل أيام “بمنع تأليف حكومة، وعرقلة الإصلاحات، ورفض مكافحة الفساد، وضرب صدقيّة الدولة، وتجويع اللبنانيين وإفقارهم”؟
إقرأ أيضاً: الحرية بدل المرارات: اعتذار ومقاطعة وعزل
في واقع الأمر، فإنّ مَن يتّهمهم ميشال عون هم “شركاء” العهد في مشروع “حكومة الإصلاح”، ويتقدّمهم “قائد أسطول” تكريس واقع الانهيار الشامل، وفق توصيف بعبدا، رياض سلامة، الذي يستعدّ لقطع حنفيّة الدعم نهائياً عن بواخر استيراد المازوت والبنزين المدعوم. والأخير هو العقدة غير المرئية في ولادة الحكومة، حيث يبرز إصرار من جانب رئيس الجمهورية على إنهاء ولايته الممدّدة حتى 2023 بمرسوم موقّع منه عام 2017، وتعيين آخر مكانه. ويؤكّد العارفون أنّ “ميشال عون لن يرحل من قصر بعبدا ورياض سلامة لا يزال يداوم في مكتبه في المصرف المركزي”.