أن يبقى لبنان عاماً كاملاً بلا حكومة فهذا دليلٌ أوّل على انهيار دولته. فمهما حاول الرئيس ميشال عون الالتفاف على هذه الحقيقة، سواء بالاستعاضة عن الحكومة باجتماعات متكرّرة لمجلس الدفاع الأعلى، وأحياناً لتولّي أمور أدنى من اختصاصه، أو بعقد اجتماعات مركّبة لحلّ الأزمات المتفاقمة كأزمة المحروقات، فإنّ العهد يؤكّد بذلك كلّه انهيار الدولة، لا العكس كما يحاول الإيحاء من خلال إعطاء طابع رئاسيّ للنظام.
إلى هذا الدليل الأوّل والرئيس، هناك دلائل أخرى على انهيار الدولة أو الدفع بها أكثر باتجاه الانهيار، وأبرزها في الآونة الأخيرة إعلان الأمين العام لحزب الله استقدام ناقلة نفط بل اثنتين من إيران من خارج أيّ إطار إداري وقانوني للدولة.
إذا كان لبنان محكوماً باستمرار الصراع السياسي القائم، سواء شُكِّلت حكومة أو لا، فإنّه يجدر بالمعارضة، وبالأخصّ السنّيّة، أن تعيد ضبط هذا الصراع من خلال القول إنّ الأولوية السياسيّة اللبنانية راهناً هي الدفاع عن فكرة الدولة التي يمعن الحزب والعهد في إسقاطها
وفوق هذين الأمرين، أي تعطيل الحكومة واستقدام الناقلات الإيرانية، فإنّ الانهيار المالي والاقتصادي المتفاقم من دون أيّ إجراءات جدّيّة من قبل السلطة لكبحه هو دليل أيضاً على انهيار الدولة بوصفها المولجة الأولى بحفظ حياة مواطنيها ومصالحهم، فإذا بها تفرّط بها من دون أن يرفّ لها جفن.
لو كان الائتلاف الحاكم، أي العهد والحزب، متحسّساً للأزمة الكبرى التي يتخبّط فيها البلد، لكان سهَّل تشكيل حكومة. ليس الآن، وإنّما قبل عام إثر استقالة الرئيس حسّان دياب. وأيّ كلام عن أنّ العهد والحزب غير مسؤوليْن لوحدهما عن الأزمة الحكومية، هو كلامٌ يراد به التغطية على غياب الإرادة لديهما لتشكيل حكومة إلّا حين يضمنان غلبةً صافيةً فيها من خلال الاستحصال على الثلث المعطِّل. وهو ما يعكس حقيقة نظرتهما إلى الدولة بما هي أداة لسيطرتهما السياسية والأمنيّة والاقتصادية على البلد. أضف إلى ذلك أنّ المسؤولية الدستورية والأدبية لرئيس الجمهورية هي فوق أيّ مسؤولية أخرى لأنّه رئيس الدولة بحسب الدستور.
أن يكون الاختلال في وظائف الدولة وبنيانها سابقاً على تولّي الحزب والعهد الحكم فإنّ ذلك لا يخفّف أبداً من مسؤوليّتهما الواضحة عن مفاقمة الانهيار الحالي، لأنّهما وعوض أن يدفعا باتجاه التخفيف من حدّة الأزمة من خلال تسهيل ولادة حكومة والبدء بمفاوضة صندوق النقد الدولي، فإنّهما فاقماها، سواء بتعطيل الحكومة لمدّة عام كامل أو باتّخاذ قرارات أحاديّة كاستقدام الناقلات الإيرانية، وهي قرارات لا تحلّ الأزمة، وإنّما تعقّدها أكثر وتفتحها أكثر على الصراعات الدولية والإقليمية في المنطقة.
بيد أنّ الأزمة الوطنية الكبرى لا يختصرها تخريب الحزب والعهد للدولة، إذ يتمثّل أحد العناصر الرئيسة لهذه الأزمة في غياب كتلة سياسيّة تدافع عن الدولة وعن الشرعية التي دعا البطريرك بشارة الراعي إلى تحريرها في ندائه الشهير في 5 تمّوز 2020. والطامة الكبرى أنّ هذا الغياب يزامن تعرُّض الدولة لأخطر تفكيك ممنهج بغية تغيير هويّتها السياسية والاقتصادية والأمنيّة وجعلها كلّيّاً في المحور الإيراني.
فطوال تاريخ الأزمات السياسيّة والأمنيّة التي شهدها لبنان لم يكن الخطر على الدولة من السلطة الحاكمة بمقدار ما هو الآن في ظلّ العهد الحالي، وذلك في وقت يأخذ الصراع المفتوح مع العهد حول الحكومة اتجاه الصراع حول الحصص وموازين القوى الحكومية لا اتجاه الدفاع عن الدولة في وجه تقويضها من قبل العهد والحزب.
هنا لا يعود مهمّاً إذا كانت الدولة التي ينبغي الدفاع عنها دولة نخرها الفساد حتّى العظم. فإنّ الأصل هو الدفاع عن فكرة الدولة الآخذة بالتلاشي في وعي اللبنانيين الذين باتوا “يتأقلمون” مع فكرة حلول قوى سياسية وعسكرية ومدنية محلّ الدولة في تأدية وظائفها الرئيسة.
المسيحيّون، الذين بنوا خطابهم السياسي تاريخياً على فكرة الدفاع عن الدولة والشرعيّة، هم اليوم في موقع الامتحان لجهة الاختيار بين تغطية رئيس الجمهورية أو مسايرته وبين الانفضاض كلّيّاً عن العهد وسياساته وخطابه، ولا سيّما مقولته: الدفاع عن حقوق المسيحيين
وهذا الإغفال المتنامي لفكرة الدولة هو أشدّ مخاطر الأزمة، ولا سيّما أنّ المنطقة بأسرها تشهد انحلالاً للدولة. وحيث هناك مساعٍ لدرء انحلالها كما في العراق فإنّ التحدّيات التي تواجهها الحكومة هائلة، وخصوصاً من جانب الميليشيات المسلّحة التي تريد الاستحواذ على الدولة.
وقد جاء الحدث الأفغاني ليذكّرنا أنّ القاعدة في المنطقة هي فشل الدولة لا نجاحها. ولكنّ المشكلة الكبرى في لبنان الآن هي ضمور الإرادة السياسية للدفاع عن فكرة الدولة بديلاً وحيداً عن الفوضى والغلبة الميليشياوية الأهلية.
لذلك تمثّل الأزمة الحكومية اختباراً حقيقيّاً لقوى المعارضة لناحية قدرتها على استنهاض وعي شعبي وسياسي مدافعٍ عن الدولة وضرورتها ضدّ محاولات تعطيلها والاستحواذ عليها وطعن سيادتها.
والواقع أنّ هذه المهمّة هي اليوم على عاتق جهتين رئيسيّتيْن، الأولى هي الأحزاب المسيحية المعارضة التي يُفترض بها الخروج من مربّع التردّد في مواجهة العهد الذي يمعن في إسقاط فكرة الدولة، والثانية هي المؤسسة السياسية السنّيّة التي تواجه تحدّياً رئيساً الآن لجهة طبيعة مشاركتها في النظام السياسي.
فالمسيحيّون، الذين بنوا خطابهم السياسي تاريخياً على فكرة الدفاع عن الدولة والشرعيّة، هم اليوم في موقع الامتحان لجهة الاختيار بين تغطية رئيس الجمهورية أو مسايرته وبين الانفضاض كلّيّاً عن العهد وسياساته وخطابه، ولا سيّما مقولته: “الدفاع عن حقوق المسيحيين”.
أمّا المسلمون السُنّة فيُفترض بهم عدم الوقوع في فخّ العهد الذي يصوِّر الأزمة الحكومية على أنّها أزمة حصص حكومية وأزمة صلاحيّات بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، فيما الواقع أنّ استعصاء تشكيل حكومة يُظهر إرادة العهد والحزب للانتقال من أزمة حكومة إلى أزمة نظام وصولاً إلى تعديله بما يناسب موازين القوى الجديدة.
من جهتها، لا تزال المعارضة المنبثقة من انتفاضة 17 تشرين 2019 متأرجحةً بين معارضة السلطة والطبقة السياسية وبين رفض نظام “الطائف”، في وقت يتبيّن يوماً بعد آخر أنّ هدف الائتلاف الحاكم هو الإطاحة بهذا النظام. وهذا التناقض يزيد من ضبابية المشهد السياسي. إذ كيف يمكن أن يتقاطع جزء من المعارضة مع السلطة الحاكمة حول أهمّ بند في استراتيجيّتها، وهو الإطاحة بالنظام؟ والسؤال لهذه المعارضة: هل البديل عن الدستور الحالي ووثيقة الوفاق الوطني في ظلّ تمسّك الحزب بسلاحه سيكون أفضل منهما أم أسوأ؟
وبالعودة إلى الحدث الأفغاني فإنّ خروج العامل الخارجي، أي القوات الأميركية، من عملية “بناء الدولة”، أدّى إلى انهيار الدولة وسيطرة حركة طالبان المتشدّدة من جديد على معظم البلاد. أمّا في لبنان فإنّ اتفاق الطائف كان الطريق لبناء دولة ما بعد الحرب بإرادة داخلية، لكنّ العامل الخارجي، بدءاً بالوصاية السورية وبعدها الإيرانية، قطع هذه الطريق وأدّى إلى انهيار الدولة.
إقرأ أيضاً: عاميّة دار الفتوى: انتفاضة سنّة لبنان
وإذا كان لبنان محكوماً باستمرار الصراع السياسي القائم، سواء شُكِّلت حكومة أو لا، فإنّه يجدر بالمعارضة، وبالأخصّ السنّيّة، أن تعيد ضبط هذا الصراع من خلال القول إنّ الأولوية السياسيّة اللبنانية راهناً هي الدفاع عن فكرة الدولة التي يمعن الحزب والعهد في إسقاطها. فلا المؤتمر الدولي ولا أيّ دعم خارجي يمكنه أن يخرج لبنان من مأزقه إن لم تتكوّن إرادة سياسيّة وطنية تقف في وجه السعي الدؤوب للائتلاف الحاكم إلى إسقاط الدولة.
هذا هو الامتحان الحقيقي لقوى المعارضة، وبالأخصّ السنّيّة، فهل تفلح؟