تعمل مصر منذ فترة على إحياء فكرة تزويد لبنان بالغاز المصري، من خلال أنابيب مشروع خط الغاز العربي، الذي يصل مصر بلبنان، مروراً بالأردن وسوريا. هذا المشروع كان قد وُضِع على الرفّ منذ اندلاع ثورتيْ سوريا ومصر سنة 2011، وتضرُّر خطوط نقل الغاز، ثمّ تجميد صيانة الأنابيب بسبب العقوبات الأميركيّة المفروضة على سوريا. والآن، عاد الملف إلى الواجهة من زاوية الاهتمام المصري بتقديم هذا النوع من الدعم للبنان، في ظل الانهيار المالي الذي تمرّ به البلاد، فيما كان ملفّ العقوبات على سوريا آخر العراقيل التي تحول دون دخول الخطة حيّز التنفيذ.
التطوّر الأساسي، الذي طرأ على الملف أخيراً، ظهر في اتصال السفيرة الأميركيّة دوروثي شيا برئيس الجمهوريّة اللبناني ميشال عون، معلنةً رغبة بلادها بتسهيل نقل الغاز المصري عبر الأردن وسوريا وصولاً إلى شمال لبنان. عنى هذا الكلام ببساطة تجاوز إشكاليّة العقوبات الأميركيّة، وتمكين لبنان من الاستفادة من هذا المشروع بعد صيانة الأنابيب وإصلاحها.
خطوة إرسال إيران للمحروقات إلى لبنان عبر حزب الله، فزادت من خشية الأميركيين من رمي البلاد اقتصاديّاً وماليّاً في ضفة محور إيران بشكل كامل في حال تفاقم تداعيات الأزمة على القطاعات الحساسة
ولا يقتصر المشروع على ربط لبنان بأنابيب الغاز المصري عبر الأردن وسوريا، بل يشمل كذلك شبكة ربط كهربائي تنطلق من الأردن وتمرّ عبر سوريا وصولاً إلى لبنان. ومن خلال هذه الشبكة، سيتمكّن لبنان من الاستفادة من التيار الكهربائي الذي سيولّده الأردن بالاستفادة من الغاز المصري. وهكذا سينقذ المشروع قطاع الكهرباء اللبناني من ناحيتين: أولاً على المدى القصير من خلال الاستفادة من تيار شبكة الربط الكهربائي، وثانياً على المدى الأطول من خلال تحويل معامل الكهرباء تدريجياً لتعمل على الغاز الطبيعي المستورد عبر الأنابيب بدل الفيول والمازوت. ومن شأن عمل المعامل على الغاز الطبيعي أن يخفِّض كلفة توليد الكهرباء بنسبة 30% مقارنة مع كلفة توليدها باستخدام الفيول أو المازوت.
كلام السفيرة الأميركيّة تخطّى إعطاء الضوء الأخضر لتجاوز موضوع العقوبات، وأبدى حماسة ظاهرة لهذا الملف من خلال الحديث عن مفاوضات جارية مع البنك الدولي لتمويل ثمن الغاز المصري وإجراء الصيانة المطلوبة لأنابيب الغاز. كل ذلك دلّ على وجود مصالح إقليميّة ودوليّة تتخطّى الحسابات اللبنانيّة المحليّة، وتدفع الولايات المتحدة إلى تسهيل ملف خط الغاز بشغف على هذا النحو. وهذه المصالح لا يبدو أنّها تختلف كثيراً عن المصالح الإقليميّة التي برّرت إنشاء خط الأنابيب هذا على دفعات منذ عام 2000.
وقد تقاطعت هذه المصالح الكبيرة مع الضغط الذي مارسه الجانب المصري لإحياء الملف، ورغبة الأميركيين بإبقاء حد أدنى من التماسك في أجهزة الدولة اللبنانيّة، وخصوصاً تلك العاملة في القطاعات الحسّاسة كالجيش والكهرباء والمحروقات، للحؤول دون الوصول إلى مرحلة الفوضى الكاملة. أمّا خطوة إرسال إيران للمحروقات إلى لبنان عبر حزب الله، فزادت من خشية الأميركيين من رمي البلاد اقتصاديّاً وماليّاً في ضفة محور إيران بشكل كامل في حال تفاقم تداعيات الأزمة على القطاعات الحساسة، بعدما مهّد حلفاء إيران لهذا الأمر من خلال الإلحاح على طروحات “التوجّه شرقاً” طوال الفترة الماضية.
تتنوّع المصالح التي تدفع دول المنطقة، وخصوصاً مصر والأردن، للتحرك باتجاه إعادة تفعيل خط الغاز وصيانة أنابيبه، فيما وجدت الإدارة الأميركيّة في الأزمة اللبنانيّة مناسبة جيّدة لتحريك الملف
لفهم طبيعة المصالح الإقليميّة الاقتصاديّة التي يحقّقها مشروع خط الغاز العربي، والتي تدفع باتجاه تحريكه اليوم من قبل مصر والولايات المتحدة، يمكن العودة إلى أهداف الخطة الأساسيّة التي تمّ الاتفاق عليها سنة 2000. الجزء الأوّل من الخطة تحقّق بربط حقول الغاز المصريّة بالسوق الأردنيّة سنة 2003، قبل أن يتمّ استكمال المخطّط عبر ربط هذه الأنابيب سنة 2008 بحمص، ومنها إلى بانياس في الساحل السوري من جهة، وإلى مدينة طرابلس من جهة أخرى. سمح إنجاز هذه الخطوات، في ذلك الوقت، لمصر بضخّ غازها عبر شبكة الأنابيب التي امتدت في العمق الأردني والسوري وصولاً إلى الساحل اللبناني.
الجزء الأهم من المشروع كان يفترض أن يتم في المرحلة اللاحقة، عبر ربط هذه الشبكة بحقول الغاز في العراق والسعوديّة من جهتيْ الشرق والجنوب، وبأسواق الغاز في أوروبا من جهة الشمال عبر وصل الشبكة بخط الغاز المعروف بـ”خط نابوكو”. ولتحقيق هذا الجزء من المشروع، تم توقيع اتفاقات بين الدول المشاركة في خط الغاز العربي، وحكومات كل من العراق وتركيا ورومانيا، وكان من المفترض أن يتم إنجاز هذه الأهداف خلال بضع سنوات. لكنّ اندلاع ثورات الربيع العربي سنة 2011 أدى إلى تضرر الأنابيب في كل من سوريا ومصر، وعرقلت العقوبات أعمال الصيانة. ثم تحوّلت مصر في فترة من الفترات إلى مستورد للغاز الطبيعي بدل أن تكون دولة مصدّرة، فانتفت حاجتها إلى المشروع.
اليوم، تتنوّع المصالح التي تدفع دول المنطقة، وخصوصاً مصر والأردن، للتحرك باتجاه إعادة تفعيل خط الغاز وصيانة أنابيبه، فيما وجدت الإدارة الأميركيّة في الأزمة اللبنانيّة مناسبة جيّدة لتحريك الملف. هذه المصالح تتوزّع على الشكل التالي:
– عادت مصر لتكون دولة مصدّرة للغاز منذ فترة، في ضوء الاكتشافات التي حصلت في حقولها البحريّة. وبينما تسعى الولايات المتحدة لإحاطة مسار التعافي الاقتصادي لمصر بأكبر قدر ممكن من الدعم الدولي، من شأن خط الغاز العربي أن يفتح باب تصدير الغاز الطبيعي لمصر بكميات أكبر وكلفة أقل، خصوصاً إذا تم ربط هذا الخط في المستقبل بخط نابوكو المفتوح على الأسواق الأوروبيّة، كما كان مخططاً في بداية المشروع.
– من شأن ربط خط الغاز العربي بالعراق لاحقاً، وفقاً لصيغة المشروع الأولى، أن يزيد من ترابط العراق الاقتصادي والمالي بمحيطه العربي، ويبعده عن الاعتماد على إيران في قطاعيْ الكهرباء والغاز المُعالج بالتحديد، كما يجري حالياً. وهذه المسألة تشكل أولويّة استراتيجيّة بالنسبة للأميركيين.
– يهتم الأميركيون بإعادة صيانة خط الغاز العربي كخطوة على طريق ربطه بحقول الإنتاج في السعوديّة والخليج عموماً، بعد ربط الخط بالسوق الأوروبيّة بحسب الخطة الأساسيّة، لفتح أبواب التصدير بكميات أكبر وكلفة أقل بالنسبة لدول الخليج، وتقليل مخاطر الصراع على مساحات النفوذ البحريّة على طرق إمداد المحروقات.
– من شأن ربط الخط بالسوق الأوروبيّة أن يزيد من تنوّع مصادر الغاز الذي تستهلكه الدول الأوروبيّة.
كل هذه الأسباب الإقليميّة والدوليّة زادت من حماسة الولايات المتحدة لتنشيط البحث في ترميم الأنابيب القائمة حالياً، بالتوازي مع الاهتمام المصري، على أمل استكمال المراحل اللاحقة وفق تفاهمات منفصلة في المستقبل، على قاعدة المصالح المتبادلة. أمّا الظروف والعوامل اللبنانيّة المحليّة فشكّلت دافعاً إضافياً، وحجةً يمكن استعمالها لتبرير تجاوز العقوبات المفروضة على النظام السوري. وفي النتيجة، سيكون بإمكان لبنان الاستفادة من تضافر كل هذه الأسباب لإعادة إحياء شبكة كهربائه، بعدما باتت تنازع بسبب انقطاع الفيول عن المعامل.