كأنّ درعا تختصر تاريخ الثورة السورية، ومستقبل البلاد. منها انطلقت الثورة في آذار 2011، وبعد 10 سنوات من الهزائم، مجبولة بدماء المدنيين والأطفال والناشطين، لا تزال درعا تقاوم، وإن على طريقتها.
وبعدما انطلقت منها شرارة التظاهرات الأولى التي ما لبثت أن عمّت جميع المحافظات السورية، وواجهتها أجهزة النظام السوري بالقتل والخطف والاعتقال، تطوّرت الاحتجاجات إلى صراع مسلّح، سيطرت بعده فصائل معارضة على المحافظة.
بعد 10 سنوات، لا تزال قوات بشار الأسد تحاول السيطرة عليها بالحديد والنار، وتعجز عن ذلك على الرغم من كلّ الجيوش التي استقدمتها، سواء كانت إيرانية أو لبنانية (حزب الله) أو روسية أو عراقية.
لنبدأ بتحديد جغرافيا هذه المحافظة ذات الأغلبية السنّيّة. فهي تتربّع على تقاطع حدوديّ يجعل موقعها استراتيجياً: جنوب سوريا، على حدود الأردن والجولان الدرزي، الذي تحتلّه إسرائيل اليهوديّة.
في عام 2018، شهدت المحافظة عمليات عسكرية وحصاراً محكماً انتهيا باتفاقات أُجلِي بموجبها المقاتلون المعارضون إلى محافظة إدلب شمال سوريا، فيما حصلت تسوية لباقي الفصائل في درعا رعتها روسيا، وضعت حدّاً للعمليات العسكرية، ونصّت على أن يسلّم المقاتلون المعارضون سلاحهم الثقيل مع إمكان الاحتفاظ بأسلحة خفيفة والبقاء في قراهم ومدنهم.
وبناءً على هذا الاتفاق تسلّم النظام الأحياء الشمالية في المدينة، أو ما يُسمّى بـ”درعا المحطة”، وبقيت الأحياء الجنوبية، التي تُعرف بـ”درعا البلد”، والتي يعدّ سكانّها 55 ألفاً، خارج سيطرة الأسد. لكنّ البند الأهمّ كان “أن تُبعِد موسكو الميليشيات الإيرانية عن خطّ المواجهة مع إسرائيل مسافة 80 كلم، وعدم وصولها إلى عمق الجنوب السوري”.
منذ أسابيع تشهد درعا تصعيداً عسكرياً بين قوات النظام ومجموعات مسلّحة معارضة، يرافقه حصار يُفاقِم الأوضاع الإنسانية سوءاً. وذلك بعد ثلاث سنوات من “التسوية الروسية”
ومنذ ذلك الحين تهيمن روسيا على “المحطة” مع وجود أمنيّ ??وعسكري محدود للنظام، وسط محاولات متتالية لإيران وحلفائها، مثل حزب الله، للانتشار في مناطق واسعة من الجنوب بالقُرب من الجولان.
إلا أنّ عدداً من الباحثين والخبراء الذين تواصلنا معهم لهم رأي مختلف في ما يجري في درعا البلد، إذ يقولون إنّ روسيا تسعى إلى الحفاظ على دورها الدبلوماسيّ كضامن للاتفاقات وتمتلك أوراق ضغط، فيما تسعى إيران، عبر ميليشياتها والفرقتين التاسعة والرابعة و“قوات الغيث” المرتزقة وقائدها المُقرَّب من ماهر الأسد، إلى تثبيت وجودها جنوب سوريا لخلق جدار حماية لممرّها الاستراتيجي الممتدّ من العراق وسوريا حتّى جنوب لبنان.
حملة جديدة ضدّ المدينة
منذ أسابيع تشهد درعا تصعيداً عسكرياً بين قوات النظام ومجموعات مسلّحة معارضة، يرافقه حصار يُفاقِم الأوضاع الإنسانية سوءاً. وذلك بعد ثلاث سنوات من “التسوية الروسية”. وبحسب “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فإنّ النظام السوري أغلق الطريق الوحيد الواصل إلى “درعا البلد” بداية تموز الماضي.
تؤكّد اللجنة المركزية في المحافظة أنّ فصائل المعارضة سلّمت أسلحتها بعد سيطرة قوات النظام على محافظتيْ درعا والقنيطرة، في تموز 2018، وأنّ السلاح الذي بحوزة سكان المدينة هو من الأملاك الشخصية لسكان درعا البلد، ولا تمتلك اللجنة قرار البتّ فيه، محمّلةً روسيا مسؤولية زعزعة استقرار المنطقة.
أنتج الحصار حتّى الآن فرار نحو 24 ألف شخص من أصل 55 ألفاً يقطنون “درعا البلد”، ولجأت غالبيّتهم إلى مناطق أخرى في المدينة نفسها أو محيطها، وفق “مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية”.
من بين الباقين في المدينة، مي الحريري، وهي شابّة سورية في العقد الثالث من عمرها، تعمل على مساعدة مجموعة من النساء والأطفال في الخروج من حاجز السرايا إلى درعا المحطة.
تتخوّف الشابّة من الأيام القادمة، وتقول في اتصال مع “أساس”: “تشهد المدينة انقطاعاً كاملاً للخبز، إضافة إلى قصف متواصل وحصار كامل، وسط عجز المنظمات الإنسانية عن إدخال المساعدات إلى الأهالي. الوضع الإنساني صعب جدّاً، وعلى المنظّمات الدولية التحرّك فوراً لفكّ الحصار عن المدينة والسكان“.
وخلال الأسابيع الماضية، أحكمت قوات النظام تدريجياً الخناق على “درعا البلد”. ولم يعد بإمكان السكان، وفق الأمم المتحدة، سوى عبور طريق واحد مشياً على الأقدام، معرِّضين أنفسهم “لإجراءات تفتيش أمنيّة صارمة”.
إقرأ أيضاً: درعا: حرب سوريا التي لن تنتهي
ويعتبر عضو اللجنة المركزية في درعا، المحامي عدنان مسالمة، أنّ إغلاق المعابر وحصار درعا البلد يُعتبران “جريمة حرب يعاقب عليها القانون الدولي المعطَّل من قبل روسيا الاتحادية”.
وقد دفع الحصار والقصف المتواصل “اللجنة المركزية” إلى خوض مفاوضات متتالية، برعاية روسية، توصّلت خلالها إلى الاتفاق مع ضباط من النظام السوري على إيقاف الحملة العسكرية والحصار الخانق، مقابل تسليم الأسلحة الخفيفة والفردية، والسماح لمؤسسات النظام الأمنيّة بإقامة حواجز داخل المدينة. إلا أنّ بنود الاتفاق لم تُنفَّذ.
* صحافي سوري استقصائي حاصل على ثلاث جوائز من BBC و”مؤسسة سمير قصير” و”الشبكة العالمية للصحافة الاستقصائية – GIJN”.
[PHOTO]