ثمّة فرق كبير بين مصطلحيْ “رفع الدعم” الذي يعني التوقّف عن بيع الدولارات كلّياً، وبين “رفع سعر بيع الدولار” الذي أعلنه سلامة أوّل من أمس، وانفجرت الاعتراضات عليه. يستخدم الزملاء الصحافيون مصطلح “رفع الدعم” لاختصار “الفعل التقني” لِما يقوم به مصرف لبنان، الذي هو في الحقيقة ليس دعماً بقدر ما هو بيع الدولار للمستوردين من شركات أدوية ومطاحن ومحروقات على سعر صرف منخفض.
بحسب المعلومات، فإنّ التوجّه لدى مصرف لبنان آيل إلى تعزيز قدرة منصّة “صيرفة” في السوق خلال المرحلة المقبلة، وذلك عبر تقريب سعرها من سعر “السوق الموازي”
بدأ مصرف لبنان بهذه السياسة بعد ارتفاع سعر الصرف أواخر عام 2019، فباع المستوردين الدولارات بـ1500 ليرة، ثمّ أخيراً بـ3900 ليرة، واليوم أعلن أنّه سيبيعها على سعر السوق، ومن دون أن يحدد أيّ سوق.
هل هو سعر السوق الموازي؟ هل هو سعر منصّته “صيرفة” (17900 ليرة لبنانية)؟ لا أحد يعلم حتى اللحظة، لكن من المرجّح أنّ سلامة تقصّد الإبهام في هذا الأمر، ربّما من أجل الوصول لاحقاً إلى نقطة التقاء مع المعترضين ظاهراً والموافقين سرّاً.
لم يرفع سلامة الدعم أوّل من أمس، بخلاف ما ظنّ البعض، وإنّما أمسك عصاه من الوسط، بين الداعين إلى رفعه كلّياً لحماية أموال المودعين وما تبقى من احتياطات لديه (إن وُجدت)، وبين المعترضين الطامحين إلى مواصلة هذه السياسة الانتحارية لمآرب متنوّعة، منها السياسي والشخصي الضيّق، ومنها الإقليمي والحزبي وحتى الطائفي، ومنها لحماية تجّار الأزمات والمحتكرين والمهرّبين.
لكنّ هؤلاء المعترضين يعلمون جيّداً أن لا مجال للسير في الدعم أكثر من ذلك، خصوصاً بعدما وصلت احتياطات المصرف المركزي إلى نقطة اللاعودة، وأنّ تشكيل أيّ حكومة مقبلة ستتجرّع هذا السمّ طوعاً أو بالإكراه وبالضغط من صندوق النقد الدولي، لكن يبدو أنّ الاعتراض ليس إلاّ لزوم الفولكلور الشعبي، ومن أجل إرضاء الجماهير والوقوف إلى جانبها ظاهرياً من خلال المواقف الشعبوية وليس الأفعال.
رفع السعر بما يتماشى مع سعر صرف دولار السوق، سيكون كفيلاً بعودة البنزين والمازوت إلى المحطات بشكل طبيعي، وسيضع حدّاً لأزمة طوابير ذلّ اللبنانيين… لكن بأثمان هي حتماً باهظة
لكن بمعزل عن أيّ سعر سيعتمده سلامة، إن كان “سعر السوق” (20500 ليرة) أو سعر منصّة “صيرفة” (17900 ليرة)، سيكون الأمر هو نفسه في كلتا الحالتين في الأسابيع المقبلة، لأنّ خطة مصرف لبنان ترمي إلى ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد:
1. رفع سعر بيع الدولار لمستوردي النفط سيخفّض الطلب على المحروقات بشكل كبير جداً (ولهذا ترفضه الشركات النفطية)، وسيخفّض الطلب على الدولار نفسه أيضاً، وهذا بدوره سيخفّف الضغط على الليرة اللبنانية.
2. رفع سعر المحروقات سيقلّص حتماً التهريب إلى سوريا لأنّ الفرق بين السعرين في لبنان وسوريا سيصبح متقارباً، ويفترض ألاّ يعود التهريب ذا جدوى كبيرة.
3. رفع سعر المحروقات سيساعد المصرف المركزي على “ضبّ” الكتلة النقدية التي “فلشها” بشكل مخيف في السوق خلال السنتين الماضيتين: فمَن كان يدفع 75 ألف ليرة ثمن صفيحة البنزين، سيدفع اليوم ثمنها 300 ألف ليرة وأكثر، أي نحو 4 أو 5 أضعاف ما كان ينفقه في السابق على المحروقات، وهذا سيساعد المركزي على إعادة الليرات اللبنانية إلى خزائنه، مقابل حصول المستوردين على الدولارات التي يفترض أن يكون سعرها مساوياً لسعر السوق أو أقلّ منه بقليل في البداية.
4. “ضب” الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية سيخلق طلباً مصطنعاً على الليرة، ولا يُستبعد أنّ تؤدي هذه السياسة إلى خلق نوع من التوازن في سعر صرف الدولار (إن لم نقل انخفاضه بعض الشيء عند محطات محدّدة)، خصوصاً إذا استطاع مصرف لبنان أن يعزّز من مكانة منصّته “صيرفة”، ويفرضها على باقي منصّات الهواتف الذكية والمجهولة.
بمعزل عن أيّ سعر سيعتمده سلامة، إن كان “سعر السوق” (20500 ليرة) أو سعر منصّة “صيرفة” (17900 ليرة)، سيكون الأمر هو نفسه في كلتا الحالتين في الأسابيع المقبلة، لأنّ خطة مصرف لبنان ترمي إلى ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد
وبحسب المعلومات، فإنّ التوجّه لدى مصرف لبنان آيل إلى تعزيز قدرة منصّة “صيرفة” في السوق خلال المرحلة المقبلة، وذلك عبر تقريب سعرها من سعر “السوق الموازي”، وهذا ما نلاحظه منذ أسابيع، مع ارتفاع سعر الصرف عبرها، من 12 ألف ليرة إلى نحو 17900 قبل أيام، ويبدو أنّه مستمرّ على هذا المنوال.
لعلّ هذا الأمر يفسّر ما يرمي إليه مصرف لبنان، الذي سيقوم مستقبلاً بمحاولة استعادة زمام الأمور في “السوق الموازي”: مع رفض “رفع الدعم” (إن جاز القول) سيستمرّ ببيع الدولارات للمستوردين، وما دام لا يملكها، فسيكون بحاجة إلى شرائها من السوق، أي من الصرّافين أنفسهم، ووفق السعر الذي سيرسمه ما دام هو الجهة التي ستكون ممسكة بمصير الليرات اللبنانية.
ولهذا يمكن القول إنّ مصرف لبنان بعد هذا القرار، سيدخل بشكل رسمي وواسع إلى “السوق الموازي”، وسيحل وسيطاً بين المستوردين والصرّافين، إذ يرجّح مراقبون أن يتدخّل المركزي في البيع والشراء، ولا يُستبعد أن يشهد سوق الدولار، نتيجة ذلك، “تقلّبات” موسمية بحسب حاجة المركزي إليها، فيخفّض السعر بواسطة المنصّة تمهيداً لضب الدولار بأرخص ما يمكن، ثمّ يرفعه تمهيداً لبيعه إلى المستوردين بأغلى ما يمكن.
استدعت معاينة صحّة هذا الكلام مراقبة سلوك التطبيقات على الهواتف الذكية أمس، أي بعد قرار سلامة الذي فاجأ الجميع، وفاجأ أهل السلطة ورئاسة الجمهورية التي كانت حاضرة/غائبة لحظة اتّخاذه. وتبيّن أنّ هذه التطبيقات بقيت ساكنة منذ الإعلان عن القرار على الرغم من أهميّته وخطورته على المواطنين لكونه يؤثّر على سلع حيوية مثل البنزين والمازوت، فلم يرتفع الدولار ألفي أو ثلاثة آلاف ليرة كما يحصل في العادة، حيث كانت التطبيقات تتلاعب بالسعر عند كل حدث سياسي بسيط: فمع اعتذار الرئيس سعد الحريري رفعت سعر الصرف إلى 24 ألفاً من دون أيّ طلب جدّيّ على الدولار. ونتيجة تكليف الرئيس نجيب ميقاتي، خفّضته نحو 2000 ليرة في ساعات.
إذاً، يمكن القول إنّ ما قام به سلامة هو “نصف حلّ”. هو أرنب جديد أخرجه من كمّه من أجل رفع جزء من المسؤولية عن نفسه، وقذف ما تبقّى من هذه المسؤولية إلى الحكومة، تحديداً إلى وزارة الطاقة التي يُفترض بها اليوم أن تتفاعل مع القرار وترفع أسعار المحروقات مكرهةً… وإلاّ ستستمرّ المحطات بالإقفال وستتوجّه الأنظار صوب السلطة السياسية وليس صوب المصرف المركزي.
إقرأ أيضاً: الدولار بـ50 ألفاً… أو نحرق أموال المودعين
إنّ رفع السعر بما يتماشى مع سعر صرف دولار السوق، سيكون كفيلاً بعودة البنزين والمازوت إلى المحطات بشكل طبيعي، وسيضع حدّاً لأزمة طوابير ذلّ اللبنانيين… لكن بأثمان هي حتماً باهظة.
… غالٍ وموجود أفضل ألف مرّة من مدعوم ومفقود!