درجت العادة أن تُسمّى الحكومات بعبارات قصيرة، يُفترض أنّها تختزل مشروع الحكومة أو وعودها. والتسميات في لبنان مهمّة، أياً يكن انفصال الاسم عن المسمّى شاسعاً. صحيح أنّ الاشتراكي، والإصلاحي، والليبرالي، والوطني، مفردات ترد في سياقات تعبّر عن رغبات أصحابها لا عن وقائع مثبتة على الأرض.. لكنّ إصرار أصحابها عليها يظلّ ثابتاً.
التسميات مهمّة وحسب.. ومادّة مبارزة على الأكيد.. حين سمّى الرئيس سعد الحريري مقرّه الجديد، بيت الوسط، بعد الانتقال إليه من قصر قريطم، أذكر أنّني سألت أحد معاونيه: “لماذا الوسط، وهي مفردة حديثة مجبولة بكلّ الانقسامات المعروفة حول تجربة إعادة إعمار وسط بيروت، بدل بيت البلد مثلاً الأكثر شمولاً وتمثيلاً وأعمق ذاكرةً؟”. أجابني مازحاً: “شلّحنا نجيب ميقاتي مشروعو السياسي باسم بناية”.
“أنا نجيب ميقاتي” الوسطيّ في مشروع حزب الله، والوسطيّ أيضاً في نادي رؤساء الحكومة. أقيم بوضوح وثبات في نقطة اللاشيء بين فؤاد السنيورة وما ومَن يمثّل. وحسن نصرالله وما ومَن يمثّل
كان نجيب ميقاتي يُنظِّر وقتها لمدرسة الوسطية السياسية، جامعاً بكثير من الخفّة بين الوسطيّة في الإسلام وبين نظريات بعض مستشاريه المعجبين بتجارب أوروبا مع “الطريق الثالث”، أي الطريق بين الديموقراطية الاجتماعية الكلاسيكية جهة اليسار والنيوليبرالية جهة اليمين.
وسطيّة ميقاتي انتهت كائناً هجيناً يتمّ تعريفه في اللغة السياسية اللبنانية “بتدوير الزوايا، ومن مواصفات هذه المدرسة أن تبتكر مخارج لغوية ولفظية وعلاقاتية، وتقدّمها حلولاً لمشاكل النظام السياسي العميقة. نجيب ميقاتي بهذا المعنى هو أحد أكثر أبناء النظام السياسي شرعيةً، والتجسيد العملي لكلّ أعطاله. أصلاً اقترنت تجربته في رئاسة الحكومة بهذا التجسيد تحديداً. فما وصل إلى رئاسة الحكومة إلّا في لحظات الانسداد الخطيرة لأوردة المنظومة السياسية. كان هو الخيار للعبور من لحظة اغتيال رفيق الحريري إلى ما بعدها. وكان هو الخيار العدوانيّ، الأقلّ عدوانيّة، بعد “اغتيال” حكومة سعد الحريري الثانية. وهو يبدو، الآن، الخيار الأنسب للمنظومة كي تراوغ غضب الشارع في المرحلة الفاصلة عن الانتخابات المقبلة.
وسطيّته هي الإقامة الدائمة في هذا الوقت المستقطَع الذي يتوسّط لحظتيْن.. يولد دوره الرئاسي عادةً من رحم احتدام يمنع خيارات حقيقية، فيكون “دولة الرئيس” هو الوسطيّ بين الدور واللادور، الوظيفة واللاوظيفة، الحضور واللاحضور. ولأنّه كذلك لا يعثر المرء في السجلّ السياسي لميقاتي على عبارة واحدة مفيدة خارج “الكلام الكليشيه”، الذي يشبه اللياقات بين الغرباء.
وسطيّة ميقاتي انتهت كائناً هجيناً يتمّ تعريفه في اللغة السياسية اللبنانية “بتدوير الزوايا، ومن مواصفات هذه المدرسة أن تبتكر مخارج لغوية ولفظية وعلاقاتية، وتقدّمها حلولاً لمشاكل النظام السياسي العميقة
حين يُحشَر الرجل في ضرورة إعلان موقف، تراه يقول “أنا نجيب ميقاتي”. عبارة تقول كل شيء ولا تقول شيئاً في الوقت ذاته.
“أنا نجيب ميقاتي” الوسطيّ في مشروع حزب الله، والوسطيّ أيضاً في نادي رؤساء الحكومة. أقيم بوضوح وثبات في نقطة اللاشيء بين فؤاد السنيورة وما ومَن يمثّل. وحسن نصرالله وما ومَن يمثّل.
بصفة اللاشيء هذه يلعب الميقاتي وظيفة خطيرة تزداد أهميّتها داخل النظام السياسي اللبناني المعطّل. وبهذه الصفة توكَل إليه اليوم مهمّة تشكيل حكومة اللاشيء، سوى تقطيع الوقت وصولاً إلى الانتخابات. الدور اللاشيء الذي يغدو كل الأشياء وأهمّها ومركزها.
لا ينتبه المرء عادةً إلى دولاب الاحتياط، إلا حين يُثقَب أحد الدواليب. الدولاب الاحتياط، ذاك الساحر الذي يعبر بك وبسيّارتك إلى مكان التصليح. والميقاتي هو دولاب احتياط المنظومة.. هو ابنها وأحد أصدق منتجاتها، ويركب، حين يلزم، “حفر وتنزيل”، وبعدها لكلّ حادث حديث.
أعود إلى الأسماء. فلو كان لحكومته اسم لوجب أن يكون “حكومة الوفاء للمافيا والميليشيا”. لذلك شاع كثيراً أنّ الميقاتي يفاوض على الحكومة الحالية وعلى حكومة ما بعد الانتخابات. هذا حقّ الوفيّ على مَن أُوفِي بحقّه.. فهو يُسلّف في الرئاسة الآن، ويقبض الرئاسة لاحقاً، كابن بارّ لا غبار على أصالته.
إقرأ أيضاً: ميقاتي فرصة عون الأخيرة؟!
الجملة الأصدق في مقابلته مع مارسيل غانم تقول كلّ شيء: “بدي إرجع روح ع المطعم”. يعلن نجيب ميقاتي أنّ وظيفته تأمين مرحلة انتقالية تمهّد للعودة إلى ما كان قبل الثورة.. لا الانطلاق نحو تغيير جذري في السلوك والممارسة، كما يجب لوظيفة أيّ حكومة أن تكون اليوم في لبنان. وظيفته وظيفة صغيرة ومحدّدة في رحلة المنظومة إلى أمس اللبنانيين لا إلى غدهم.. ولو قُيِّض له أن يشكّل فسيضمن أن تكون جرعة الدعم الآتية من صندوق النقد الدولي كافية لخلق هذا الوهم، بتهدئة الأمور والعودة بها إلى الوراء، قبل أن تتكفّل الانتخابات إعادة إنتاج هذا الوراء بمعظم تفاصيله.
نجيب ميقاتي هو ما يليق بالمنظومة وأزمتها، وما لا يليق باللبنانيين بعد كلّ ما علموا وذاقوا…