في الأشهر الأخيرة، حاول المحقّق العدلي في قضية تفجير مرفأ بيروت طارق البيطار الإضاءة على نظرية “الإهمال الإداري”، باعتباره أدّى إلى تفجير مرفأ بيروت. فادّعى على كلّ مَن “كان يعلم” بوجود مئات أطنان نيترات الأمونيوم في المرفأ، كما سرّب. وبذلك بات كلّ اللبنانيين يعرفون رواية النيترات، منذ كانت على متن الباخرة “روسوس” حين وصلت في 22 تشرين الثاني 2013، إلى لحظة تفجيرها في 4 آب 2020.
التقرير أدناه، سينشر على 5 حلقات، وهو يستند إلى معلومات موثّقة بالكامل، تضيء على “مسار” النيترات، من لحظة صناعتها في جورجيا، إلى لحظة رسوّ السفينة “روسوس” في مرفأ بيروت. وذلك لإكمال الصورة، وعدم اقتصار النقاش على “كيف انفجرت”، والرجوع إلى “لماذا أتت إلى لبنان؟”، و”مَن أتى بها؟”، و”لماذا؟”، و”كيف بقيت طوال هذه المدّة؟”.
في الحلقة الأولى اليوم، إثباتات على ارتباط النيترات برجال أعمال روس، قريبين من الرئيس فلاديمير بوتين، ومن الرئيس بشّار الأسد.
بدأت الحكاية في جورجيا، حيث مصنع “روستافي أزوت”. هناك صُنّعت النيترات، في مصنع واجهته أنّه شركة خاصة من تلك الشركات التي نشأت في بلدان الاتحاد السوفياتي بعد انهياره. يديره رجال أعمال جورجيون، على علاقة قوية برجال مجهولين في روسيا. وروسيا هي فلاديمير بوتين منذ عقدين. لذا تبيّن خلال البحث أنّ المصنع عقد صفقة “من تحت الطاولة” مع شركة روسية لنيترات الأمونيوم تسمّى “درايمور”، تثبت العديد من الوثائق أنّها تسيطر على قرار البيع في المصنع، فلا يستطيع هذا المصنع أن يبيع حبّة نيترات أمونيوم واحدة من دون أن يحصل على موافقة هذه الشركة الروسية. وبالصدفة يملك هذه الشركة رجل أعمال في القطاع الخاصّ، يسمّى “رومان بيبيّا”، تربطه علاقات قوية بموسكو، ومع المحيطين بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وتشير معلومات متقاطعة من أكثر من مصدر إلى أنّ الشركاء الروس أغرقوا “روستافي أزوت” بالديون، وأصبح المصنع وعدّة مصانع مشابهة في جورجيا تحت سيطرتهم. وهي سيطرة يمكن اعتبارها، في جزء منها، سياسية.
بعد التدقيق يتبيّن أنّ هذا المصنع قد اشتُبه أكثر من مرّة في أنّ النيترات التي يستوردها لا يتمّ استخدامها كمتفجّرات في المناجم فقط، بل يبيعها لحركات معارضة وحركات إرهابية وتنظيمات مسلّحة في دول إفريقية مختلفة
شحنة نيترات الأمونيوم التي انطلقت في أيلول من عام 2013، من ميناء باتومي في جورجيا، كان يفترض أن تكون في طريقها من “روستافي أزوت” إلى ميناء بييرا موزمبيق، تحديداً إلى مصنع “فابريكا دي أكسبلوسيفوس” Fábrica de Explosivos الذي يملكه رجال أعمال برتغاليون بالشراكة مع أشخاص من موزمبيق، يُقال إنّ من بينهم نجل الرئيس الموزمبيقي السابق (بحسب الصحافة الموزمبيقية المعارضة التي أظهرت بعض الوثائق في هذا الإطار). وهو المصنع الوحيد الذي يستورد نيترات الأمونيوم في البلاد لأنّه يملك حقّاً حصرياً بذلك. ويستخدمها في تصنيع المتفجّرات، ويقال إنّها من أجل المناجم… ويستعمل هذا المصنع النيترات داخل موزمبيق، ويوزّع المتفجّرات والنيترات على دول إفريقية مجاورة، ولديه مستودعات في البرتغال.
بعد التدقيق يتبيّن أنّ هذا المصنع قد اشتُبه أكثر من مرّة في أنّ النيترات التي يستوردها لا يتمّ استخدامها كمتفجّرات في المناجم فقط، بل يبيعها لحركات معارضة وحركات إرهابية وتنظيمات مسلّحة في دول إفريقية مختلفة.
وفي أحد الملفّات حقّقت السلطات الإسبانية مع أصحاب المعمل البرتغاليين حول احتمال مسؤولية المصنع عن المتفجّرات التي استُخدِمت في التفجيرات التي ضربت مدريد، وقامت بها منظمة “إيتا” الانفصالية في عام 2004. وخضع أصحاب المصنع للتحقيق مرّات عديدة، وكُشِف على مقرّ المصنع، وتبيّن أنّ الأرقام، التي يُصرّح عنها المصنع، والمتعلّقة بحجم البضاعة الموجودة، ليست مطابقة لأعداد الأكياس الموجودة في مستودعاته، الأمر الذي يطرح شكوكاً في احتمال أن تكون كمّيّات قد بيعت من خارج الجداول الرسمية.
إقرأ أيضاً: القصة الكاملة لسفينة الموت: رجل أعمال لبناني وعلم إيراني
وتجدر الإشارة إلى أنّ مصنع جورجيا حاول مراراً الحصول على عقود مع زبائن من أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وزبائن من دول أخرى، لكن دائماً ما كان هناك “فيتو” من “درايمور” الروسية، لأنّ ذلك يحتاج إلى موافقتها، بحسب شهادات أشخاص عمِلوا وسطاء مع المصنع حتّى قبل انفجار 4 آب في مرفأ بيروت. وبحسب تقرير وزارة التجارة الهندية، عقب انفجارات “بومباي”، في 1993، أكّدت الوزارة، بعد مراسلاتها مع 30 مصنعاً، في إطار دراسة عن سوق نيترات الأمونيوم، أنّ العمليات التجارية لا تتمّ مباشرة مع مصنع جورجيا، إنّما عبر “درايمور”.
فكيف استطاع هذا المصنع أن ينفّذ هذا العقد بهذه السهولة والسلاسة مع مصنع موزمبيق، فيما الأمر يستحيل حدوثه من دون موافقة الشركة الروسية؟
*الوثائق:
– مقال حول صاحب مصنع “روستافي أزوت” رجل الأعمال “رومان بيبيّا” الذي تربطه علاقات قوية بموسكو: اضغط هنا
– مقال حول احتمال مسؤولية مصنع “فابريكادي أكس بلوسيفوس” في الموزمبيق عن المتفجّرات التي استُخدِمت في التفجيرات التي ضربت مدريد في العام 2004: اضغط هنا
في الحلقة الثانية غداً:
كيف اختفى الوسيط البريطاني الوهميّ؟