ليست المسألة مسألة “أنانيّة البعض”، كما يقول الرئيس سعد الحريري في ردّه على العقبات التي وُضِعت في وجهه كي لا يشكّل حكومة. المسألة مسألة حقد على كلّ ما له علاقة بموقع رئيس مجلس الوزراء في لبنان. هذا حقد يتجاوز حدود لبنان ليصل إلى أحداث سوريا والعراق. أخذت هذه الأحداث، بما تركته من انعكاسات على لبنان، بعداً جديداً لا يمكن عزله عن عمليّة مدروسة تستهدف طبيعة كلّ مدينة مهمّة عراقية أو سوريّة أو لبنانيّة… مع تركيز خاصّ على بيروت بالذات، وموقعها في المنطقة، ودورها على كلّ صعيد، بصفتها مدينة تنوّع وانفتاح على كلّ ما هو حضاري في العالم قبل أيّ شيء آخر.
طلب باسيل من “السيّد” أن يكون هو الحَكَم في كلّ ما يتعلّق بتشكيل الحكومة والمحافظة على حقوق المسيحيين. لا يدري صهر رئيس الجمهوريّة الذي فُرِضت عليه عقوبات أميركية بموجب قانون ماغنتسكي المرتبط بالفساد معنى ذلك وخطورته على كلّ لبناني
يبدو أنّ إحدى مهمّات رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره جبران باسيل، اللذين يريدان استعادة “حقوق المسيحيين” بسلاح “حزب الله”، تدمير موقع رئيس مجلس الوزراء. لمصلحة مَن يحصل ذلك؟
الجواب أنّ ذلك يحصل في سياق واضح حدّده “حزب الله”، ومِن خلفه إيران. يصبّ السياق في نهاية المطاف في بلوغ “المؤتمر التأسيسي”، الذي تحدّث عنه الأمين العام للحزب قبل سنوات عدّة.
من ضمن هذا السياق أيضاً، أتى انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية بصفته مرشّح “حزب الله” الذي أغلق مجلس النوّاب سنتين وخمسة أشهر من أجل فرض معادلة “ميشال عون أو الفراغ في رئاسة الجمهوريّة”. بعد مرور أربع سنوات وأربعة أشهر وبضعة أيّام على ذلك اليوم المشؤوم، يوم 31 تشرين الأوّل 2016، يتبيّن أنّ بقاء الفراغ في رئاسة الجمهوريّة كان أفضل. يظهر بوضوح، ليس بعده وضوح، أنّ الرهان على أنّ ميشال عون تغيّر ولم يعُد ذلك الضابط الذي قبع في قصر بعبدا حتى 13 تشرين الأوّل 1990، كان رهاناً في غير محلّه.
أخطر ما في الأمر أنّ النظام في لبنان تغيّر قبل انعقاد “المؤتمر التأسيسي”. لن يكون من هدف لهذا المؤتمر، في حال انعقاده يوماً، سوى تكريس أمرٍ واقعٍ في لبنان. بموجب هذا الأمر الواقع، بات للبلد “مرشد” يقرّر مَن هو رئيس الجمهورية. لم يكن ينقص الصورة، كي تكتمل، سوى شرشحة موقع رئيس مجلس الوزراء. وهي شرشحة مدروسة عن سابق تصوّر وتصميم.
في ضوء هذه المعطيات، يبدو واضحاً أنّ المطلوب تغيير طبيعة لبنان، وليس فقط طبيعة النظام فيه. مطلوبٌ أن يكون هناك “مرشد” محلّي. هذا “المرشد” ليس سوى الأمين العام لـ”حزب الله” الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، لكنّ عناصره لبنانيّة.
لعلّ أهمّ ما غاب عن جبران باسيل ماهيّة “حزب الله”، وطبيعة علاقته بـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران.. ليست حقوق المسيحيين همّاً لدى الحزب.. لبنان كلّه ليس سوى ورقة إيرانيّة من وجهة نظره
تكفي متابعة الأحداث التي شهدها لبنان منذ انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهوريّة للتأكّد من أنّ الهدف تدمير موقع رئيس مجلس الوزراء وتهشيمه. من مهازل المرحلة، التي سبقت اعتذار سعد الحريري، وضع رئيس الجمهورية نفسه، عبر صهره جبران باسيل، في حضن حسن نصرالله الذي ائتمنه على حقوق المسيحيين في لبنان علناً. نعم، طلب جبران باسيل من “السيّد” أن يكون هو الحَكَم في كلّ ما يتعلّق بتشكيل الحكومة والمحافظة على حقوق المسيحيين. لا يدري صهر رئيس الجمهوريّة، الذي فُرِضت عليه عقوبات أميركية بموجب قانون ماغنتسكي المرتبط بالفساد، معنى ذلك وخطورته على كلّ لبناني، أكان مسلماً أو مسيحيّاً. أوصل اللعبة السياسيّة في لبنان إلى نقطة صارت فيها للبلد مرجعيّة سياسيّة واحدة هي “المرشد”، أي مرجعية الأمين العام لـ”حزب الله” الذي يعترف بأنّه “جندي في جيش الوليّ الفقيه”.
لعلّ أهمّ ما غاب عن جبران باسيل ماهيّة “حزب الله”، وطبيعة علاقته بـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران. ليست حقوق المسيحيين همّاً لدى الحزب. لبنان كلّه ليس سوى ورقة إيرانيّة من وجهة نظره. كلّ ما هو مطلوب تحويل لبنان أداة طيّعة لدى إيران. هذا ما يفسّر تلك الهجمة على موقع رئيس مجلس الوزراء الذي يرمز إلى ما بقي من صمود لبناني في وجه الهجمة الإيرانيّة.
ليس التخلّص من موقع رئيس مجلس الوزراء في لبنان حدثاً عابراً بأيّ شكل، بمقدار ما هو استكمالٌ لجريمة اغتيال رفيق الحريري في عام 2005. لم تكن الجريمة، المعروف مَن يقف خلفها، جريمة محلّية، بل كانت جريمة ذات طابع إقليمي في ظلّ الزلزال العراقي في عام 2003. جرى تسليم العراق على صحن من فضّة إلى إيران التي ركّزت على التخلّص من رفيق الحريري لكونها تعرف تماماً ما الذي تريده، ومعنى وجود زعامة لبنانية ذات امتداد عربي ودولي، ومعنى أن تكون بيروت المزدهرة العاصمة الماليّة والثقافية والإعلاميّة والسياحيّة والاستشفائية والتعليميّة في المنطقة.
ليست المسألة مسألة اعتذار سعد الحريري. إنّها أبعد من ذلك بكثير. إنّها مسألة إسقاط آخر رمز سياسي لبناني متمثّل بموقع رئيس مجلس الوزراء. يجب سقوط هذا الموقع وتحويله إلى أحد المواقع التابعة لـ”المرشد”. هذا كلّ ما في الأمر. لا بدّ من استكمال ما حصل في الرابع عشر من شباط 2005…
من حرب تمّوز صيف 2006 وصولاً إلى اختيار حسّان دياب لتشكيل حكومة، لم يكن الغرض يوماً غير إذلال موقع رئيس الوزراء وتسخيفه بأسلوب يعبّر عن حقد ليس بعده حقد، ليس على أهل السُنّة فحسب، بل على كلّ مدينة عراقيّة وسوريّة ولبنانيّة.
إقرأ أيضاً: بعد اعتذار الحريري: حكومة… أو استقالة عون
لا يمكن النظر إلى موقع رئيس مجلس الوزراء في لبنان إلّا من خلال ما حلّ ببغداد والبصرة والموصل وحمص وحماة وحلب ودمشق وطرابلس… وبيروت بصفتها آخر الرموز التي صمدت في وجه إرادة “المرشد” الأعلى في طهران، و”المرشد” المحلّي في الضاحية الجنوبيّة.