توقّف الزمن عند مروان حماده في الأول من تشرين الأول من عام 2004، تاريخ محاولة اغتياله بسيارة مفخّخة. وقد شكّلت الحادثة المحطّة الحاسمة في توجيه سياسات حماده، وحوّلته إلى معارض شرس، بلا سقف، لطرفين اثنين: سوريا الأسد و”حزب الله”.
لا يشعر حماده بشيء من الحذر في مقارباته السياسية، وخصوصاً لمن يعارضهم بقوة اليوم، ونقول اليوم لأنّ الأمر لم يكن كذلك في غابر الزمان. وتفضح مفرداته، التي يبدو وكأنّه ينتقيها من “برميل متفجرات”، غضباً عاصفاً تجاه الطرفين المذكورين. كيف لا، وهو يتّهمهما بمحاولة اغتياله؟ على عكس صديقه وليد جنبلاط يندّد بهذين الطرفين بلا سقف، ويتوقّع نكوس محور إيران – “حزب الله”. ما رأي مروان حماده بمهادنة جنبلاط اليوم لـ”حزب الله”، وقوله إنّ محوره ربح الحرب؟ يقول: “أعتبر أنّ من حق وليد جنبلاط أن يهادن “حزب الله” حرصاً على سلامة الجبل المهدّد من كل صوب، ولا أشاطره الرأي في أنّ هذا المحور ربح. لا أحد يربح في لبنان ويستمر رابحاً، وإلا لبقي الدروز حكام جبل لبنان ولبقي اسمه جبل الدروز، ولكان الموارنة هيمنوا أكثر من 200 عام، ولكان السنّة مع عبد الناصر وياسر عرفات استمروا بالمدّ القومي العربي وحكموا لبنان أبدياً، لذا ولاية الفقيه لا أفق لها”.
تعرّض مروان حماده لمحاولة اغتيال في الأول من تشرين الأول من عام 2004 بتفجير سيارة مفخّخة أثناء مرور موكبه في منطقة رأس بيروت، فقُتل مرافقه غازي أبو كرّوم، وأُصيب هو بجروح وحروق في الوجه والكتف والقدم، وجُرح سائقه
هكذا هو، جريء حتى التهوّر فكرياً وسياسياً، لكن ليس مؤكداً أنّه يترك للحكمة السياسية مكاناً، على غرار “وليد” كما يناديه حماده.
كانت حادثة محاولة الاغتيال التي نجا منها مروان حماده بأعجوبة هي الولادة الثانية للوزير السابق والنائب المستقيل، ومنها نبدأ سيرته.
تعرّض مروان حماده لمحاولة اغتيال في الأول من تشرين الأول من عام 2004 بتفجير سيارة مفخّخة أثناء مرور موكبه في منطقة رأس بيروت، فقُتل مرافقه غازي أبو كرّوم، وأُصيب هو بجروح وحروق في الوجه والكتف والقدم، وجُرح سائقه.
دخل مروان حماده في غيبوبة، ولمّا استيقظ منها وجد نفسه يخضع لسلسلة جراحات امتدّت 14 شهراً.
خرج مروان حماده من غيبوبة الحدث الأفظع في حياته، لكنّه حتى اليوم لم ينجح في فكّ طوق الحساسية الشديدة تجاه ما يسمّيه “النظام الأمني اللبناني السوري الذي كان لا يزال مهيمناً على الوضع”. في تعريف هذا “النظام”، بحسب حماده، يوجد طرفان: “الرئيس السوري بشار الأسد وحزب الله”. برأيه أنّ “حزب الله” لم يكن ظاهراً حينئذٍ على ساحة الاغتيالات، لكنّ الأمر اختلف بنظر حماده بعد اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري في 14 شباط 2005. “عندئذ توضّحت الأمور وتطوّرت مواجهتي وتصلّبت، وتركت الجزء الأكبر من دبلوماسيّتي المعهودة لأنتقل إلى موقع المواجهة الصريحة والمفتوحة، ذاهباً أبعد من حلفائي وأصدقائي في هذا المنحى”. يغرق مروان حماده في تفاصيل الحدث الأسود، وما تلاه من سلسلة اتهامات أودت بأصدقاء وأحباء، منهم ابن أخته الصحافي جبران تويني “آخر عنقود” أولاد غسان تويني، “الأمر الذي فتح عيوني أكثر على حجم المؤامرة على لبنان”.
لا يُغفل مروان حماده تفصيلاً إلا ويوجّه فيه الاتهام إلى الدائرة المحيطة بـ”حزب الله”. لم يقنعه البتّة نفي الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، الذي زاره حماده عقب محاولة الاغتيال بفترة، بناء على طلب وليد جنبلاط، أنّ الحزب لا علاقة له بهذا الأمر. يوجّه اتهاماً صريحاً إلى سليم عياش المتّهم من قبل المحكمة الدولية بأنّه منفّذ اغتيال الحريري. يقول حماده: “تبيّن أنّ سليم عياش ليس مجرد كومبارس كما صوّروه، بل هو أحد الأركان الثلاثة في “حزب الله” بعد حسن نصر الله وعماد مغنية ومصطفى بدر الدين، وأنّه مسؤول الوحدة 121 الخاصّة بالاغتيالات”.
في حوادث 7 أيار، التي يصفها حماده بـ”اجتياح حزب الله لبيروت”، يرى أنّ الحزب اعتدى على سيادة بيروت، وأنّ الجيش تخاذل آنذاك في الدفاع عن المدينة
وصلت قضية حماده المشمولة بقرار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان إلى مرحلة متقدّمة، لكن وقف تمويل المحكمة بسبب الوضع المالي للبنان لن يتيح لها نهاية قريبة. في هذا الصدد يقول حماده: “أعتبر وقف التمويل رسالة سيّئة جداً إلى المجتمعين اللبناني والعربي وكأنّه رخصة للقتل من دون عقاب”. هذا الكمّ من الحقد الذي يظهّره حماده لـ”حزب الله”، هل كان دافعاً له إلى الانتقام من الحزب في عام 2008، حين كان وزير الاتصالات وقرّر تفكيك شبكة الاتصالات الخاصة بـ”حزب الله”، فأدّى ذلك إلى حوادث 7 أيار؟ ينفي حماده هذا الأمر، ويقول:” لم تبدأ حوادث 2008 في العام نفسه. لقد حذّرنا “حزب الله” مراراً، وعبر اجتماعات متلاحقة عند وزير الدفاع إلياس المر، وبحضور أشرف ريفي والحاج وفيق صفا والعميد جورج خوري، من أنّ توسيع شبكة اتصالاته من البقاع والجنوب، التي كنا نقبلها على أنّها لأغراض المقاومة المشروعة، إلى جبل لبنان وعكار ومطار بيروت ومحيطه ووسط بيروت قرب السراي الحكومي وصولاً إلى محاذاة السفارة الفرنسية، أمر غير مسموح، وهو احتلال لبنى الدولة التحتية، وعرضنا عليهم عدم إكمال الأعمال التي استخدموا فيها الخنادق وأنابيب “أوجيرو”، فكان الجواب بالرفض، وأنّ الأمر يندرج في صلب المقاومة”.
في حوادث 7 أيار، التي يصفها حماده بـ”اجتياح حزب الله لبيروت”، يرى أنّ الحزب اعتدى على سيادة بيروت، وأنّ الجيش تخاذل آنذاك في الدفاع عن المدينة، فيروي أنّه “عندما اتصلت برئيس الأركان وسألته عن وحدات التدخّل السريع والمصفّحات أمام “لاهويا سويت” وفندق “فينيسيا”، قال لي: هكذا جاءنا الأمر”. لكن الواقعة المضحكة، التي يرويها حماده وسط كل هذا السيناريو الأسود، هي أنّ سعد الحريري ووليد جنبلاط قالا لوزرائهما في جلسة مجلس الوزراء، التي سبقت حوادث 7 أيار، إنّ عليهم اتخاذ القرار بتفكيك شبكة اتصالات “حزب الله” أو الاستقالة… وبعد يومين جاء أمر معاكس من الحريري وجنبلاط بأن يسحبوا القرار أو يستقيلوا. سُحِب القرار وكانت المبادرة القطرية التي أعقبها اتفاق الدوحة الذي أوصل قائد الجيش ميشال سليمان إلى سدّة الحكم، “وسلّم “اتّفاق الدوحة” المزيد من السلطة إلى محور الممانعة”، بحسب قول حماده.
الولادة الأولى
ولد مروان حماده في مستشفى توفيق رزق في البسطة في 30 أيار من عام 1939، لكنّ أهله سجّلوه في شهر أيلول. فرح أهله بقدومه بعد ولادة شقيقته ناديا، وأطلق أقارب له الأعيرة النارية في بعقلين ابتهاجاً، لكن لم يكد مروان يتجاوز العامين حتى اضطرّت عائلته إلى مغادرة لبنان بعدما اتخذت سلطات الانتداب الفرنسية قرارها بنفي والده محمد علي حماده إلى العراق في عام 1941، لأنّه كان مؤيّداً لـ”حزب النداء” القومي مع رياض الصلح وكاظم الصلح. علّم والده الحقوق في بغداد.
يتذكّر مروان حماده نفسه، بعد عودة العائلة إلى لبنان إثر الاستقلال، طفلاً واقفاً على شرفة المنزل وهو يصرخ: “بدنا بشارة بدنا رياض”، بالإضافة إلى ردّة: “هدّي يا حماري هدّي تتركب على إدّه”. وكان المقصود رئيس الجمهورية الأسبق إميل إده الذي اتُّهم بتعاونه مع الانتداب الفرنسي، “بعدها اعتذرت للعميد ريمون إده على كلام الطفولة”، يقول حماده لـ”أساس”.
بعد الاستقلال، انخرط والده محمد علي حماده في السلك الخارجي، وعُيّن قنصلاً عاماً في باريس، حيث كان أحمد الداعوق سفيراً. في العاصمة الفرنسية ارتاد حماده مدرسة الراهبات الإيرلنديات، وهي مدرسة كاثوليكية. كان الأول في العلوم الدينية، ويحضر القدّاس مع التلاميذ. ونظراً إلى تفوّقه في علوم الدين المسيحية، كانت الراهبة الفرنسية توبّخ الأطفال الفرنسيين قائلة: “هذا الولد المسلم يعرف أكثر منكم”. والدته مارغريت الفرنسية الكاثوليكية لم تجعل الدين يدخل في صلب التربية العائلية، وهي احترمت خصوصية الجبل. عاش مروان في بيئة متطرّفة بتنوّعها: عمّه شيخ عقل الطائفة في الشوف، وعمّه الثاني مطران في وسط فرنسا.
وصلت قضية حماده المشمولة بقرار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان إلى مرحلة متقدّمة، لكن وقف تمويل المحكمة بسبب الوضع المالي للبنان لن يتيح لها نهاية قريبة
تربّى في جوّ متعدّد ثقافياً، لكنّه تشرّب من والده أفكار القومية العربية، إذ كان والده صديق رياض الصلح وشكيب أرسلان. “كان جوّي قومياً عربياً، وكنت ناصرياً في حداثتي، وبكيت كثيراً عند وفاة عبد الناصر، وقبلها إثر نكبة عام 1967، وفي يوم الانفصال السوري عن مصر”.
كانت دراسته الأولى في مدرسة الراهبات الإيرلنديات في باريس، ثمّ تابع دراسته في الليسيه الفرنسية في أثينا، ثمّ في “الإنترناشيونال كولدج” في بيروت، ثمّ في الجامعة اليسوعية حيث حصل على شهادة الدراسات العليا في الاقتصاد وإجازة في الحقوق. تمرّن في مكتب للمحاماة، لكنّه ترك هذه المهنة سريعاً، واتّجه إلى الصحافة.
بدأ العمل في سنته الجامعية الأولى في شركة طيران الشرق الأوسط، وكان في الـ18 من العمر، على الرغم من أنّ والده كان سفيراً، ووضع العائلة المادي متوسّط إلى جيّد. إلا أنّه اختار الاستقلالية عن العائلة، فعمل في الشركة أعواماً ضابطَ حجوزات، ثمّ رئيساً لقسم سفر المجموعات. “كنت أستقبل كلّ ضيوف الشركة، وأستضيفهم في كازينو لبنان وفي مطاعم بيروت، وصار عملي في الليل، ودراستي الجامعية في النهار”.
انتقل إلى العمل الصحافي بسبب دور صهره غسان تويني زوج ناديا وصاحب جريدة “النهار”، الذي اشترى مجموعة “النهار” مع آل إده وحلو وفرعون، وجريدة “لوجور”، ثمّ “لوريان” التي أصبحت لوريان لوجور.
عمل في كتابة الافتتاحيات، وفي الميدانيات، وغطّى حروب فييتنام وكشمير والحروب العربية الإسرائيلية وسواها. وفي الحرب القبرصية وقع أسيراً في قبضة الأتراك ثمّ اليونانيين. وحرّرته مع وفيق رمضان القوات الدولية التي دخلت نيقوسيا بدبّاباتها. وكان في الـ24 من العمر. اختار التمايز عن عائلته اليزبكية الشمعونية فاعتنق مبادئ كمال جنبلاط الأكثر حداثة وتقدّماً، وذات الطبيعة العلمانية. أدّى لاحقاً دوراً في توحيد بعقلين، فلم يعد الجوّ جنبلاطياً يزبكياً. تعرّف إلى كمال جنبلاط من خلال عمله الصحافي، إذ كان يتردّد إلى بيته قرب فرن الحطب في مار إلياس. يصف كمال جنبلاط بأنّه ظاهرة فريدة في لبنان، ولا شكّ أنّه يدين كثيراً للعصبية الدرزية، لكنّه تجاوزها بسرعة بعلمه وانفتاحه وثقافته وميله إلى العدالة الاجتماعية واختباره الاشتراكية الديموقراطية (وليس الشيوعية). فقد تحالف جنبلاط مع الاتحاد السوفياتي، ولكنّه لم يكن شيوعياً في يوم من الأيام. أصبح منارة، لكنّه ظُلم كثيراً، إذ وضعت له طائفته حدوداً بسبب النظام اللبناني، فلم يستطع أن يلعب الدور الذي يستحقّه طبيعياً”.
إقرأ أيضاً: شارل رزق (1): الرئيس المقبل عليه أن يكون طيّاراً ذا خبرة
أخته ناديا تويني، الشاعرة وزوجة غسان تويني، التي تكبره بخمسة أعوام، يقول إنّها ربّته، ويصفها “بالملاك الدائم في حياتي”. ماتت بعمر الـ47 عاماً بمرض السرطان، “وشكّل فقدانها أكبر خسارة في حياتي”. شقيقه الأصغر علي، الصحافي المعروف، يصفه “بالمميّز، وقد أثّرنا به كثيراً أنا وناديا، وهو أصغر منّا بكثير”.
في الحلقة الثانية غداً: لا أمل بتعافي لبنان بوجود عون وباسيل