مرّة جديدة يتميّز بها لبنان. هذه المرّة، فرادته كانت على نزاهة كارل عيراني. وهو قاضٍ مُقرّر في مجلس الشورى. وهي المرّة الأولى التي تُكرّم فيها وزارة الخارجية الأميركية قاضياً. كانت عادتها تكريم ناشطين في مجال مكافحة الفساد من خارج مؤسّسات وأجهزة الدولة، ليكون عيراني هو أوّل قاضٍ يُمنح هذه الجائزة تقديراً لجهوده في محاربة الفساد.
يقول عارفو عيراني إنّه قرأ عدداً كبيراً من الكتب والمراجع القانونية. بدأ في سنواته الأكاديمية بدراسة المناهج في كلّية الحقوق، ثمّ ذهب إلى الاجتهادات، فالمجلّات الحقوقية الصادرة في لبنان وعن القضاء الفرنسي. لم يكتفِ بقراءة الكتب الحقوقية والقانونية، بل راح ينطق بأدبيّاتها ويتحدّث لغتها. كلّما زاد كلامه، كلما ابتعد عنه من لا يعنيه استواء الحياة السياسية في لبنان، وبات احتمال الوقيعة بينهم قائماً بين جملة وأخرى.
تكاد تكون حياته الخاصة ضيّقة جداً بفعل تركيزه على الشأن القانوني. بحسب عارفيه، يتحدّث عن نفسه بلغة القانون والدستور. يؤرّخ لنفسه وتاريخه الشخصي من خلال “جهوده” مع آخرين في مكافحة الفساد والسعي وراء الشفافية. كتوم، صادق، أمين في انتمائه للبنان من غير احتساب الطوائف. ذلك أنّ البلد بالنسبة له جماعة واحدة يربط بينها عيش واحد يشترك الجميع في تقريره. مجتهد وملتزم بأمانته لقناعته بمحاربة ومكافحة الفساد.
القاضي كارل عيراني مثقّف في القانون. يحتلّ القانون عقله وبصيرته. لا يتنازل عن خلفيّته الثقافية القانونية في مقاربة أيّ أمر. كثيراً ما يلجأ في أحاديثه إلى مفردات قانونية. باغضٌ للفاسدين والمُفسدين. لديه حنين للدولة الشفّافة والعادلة. هو ضدّ قرارات السلطة، لكنّه أمين على صلاحيّاتها وحضورها والتزامها الحرفيّ بالقانون وعدالته. هاجسه عموم الناس من دون أن يفرّق بينهم.
الجائزة هي اعتراف دولي بمكانة القاضي كارل عيراني رمزاً لمكافحة الفساد، في بلد يعاني مشاكل هيكلية وسياسية معقّدة
إلى جانب عمله القضائي، كان لعيراني دور أساسي في صياغة الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد. وهو جهد يعود لسنوات طويلة من العمل المتواصل. شارك في إعداد هذه الاستراتيجية من موقعه قاضياً في مجلس شورى الدولة. وهو ما يؤكّد التزامه ليس فقط بتطبيق القانون، بل أيضاً بإصلاح النظام من الداخل ووضع أطر قانونية تسهم في تحسين فعّالية القضاء في مكافحة الفساد.
كارل عيراني “نشّف” دم القانون والإصدارات القانونية. لم يترك مرتكباً كبيراً أو صغيراً إلّا وشرّحه بالمقصّ القانوني. يسمعه الجميع عندما يكتب قراراً. لكنّه لا يسمع أحداً يهذر في الطائفية والسياسة. ربّما يعتقد القانون حقّاً حصرياً له، ولا يضيع حقٌّ وراءه كارل عيراني.
شجاع ومستقلّ، وهاتان الصفتان يُقارب بهما أيّ ملفّ أو قضيّة. يُذكّر اللبنانيين بمقولة شهيرة لأحد قضاة التحقيق الفرنسيين في خمسينيات القرن الماضي حين ردّ على السلطة التي طلبت منه الإبقاء على توقيف متظاهرين سلميّين: je suis ici pour render justice et non pas pour render service meme a la France ، بمعنى: “أنا هنا لأحقّق العدالة وليس لأقدّم خدمة… حتى لفرنسا نفسها”.
أهمّيّة الجائزة
الجائزة هي اعتراف دولي بمكانة القاضي كارل عيراني رمزاً لمكافحة الفساد، في بلد يعاني مشاكل هيكلية وسياسية معقّدة. فهي تأتي في وقت تواجه الدولة اللبنانية تحدّيات كبيرة تتعلّق بالشفافية والمحاسبة، وهو ما يجعل هذا التكريم إشارة قويّة إلى أنّ الجهود القضائية المستقلّة هي السبيل الوحيد لاستعادة ثقة الشعب والمؤسّسات الدولية في النظام القانوني اللبناني.
القاضي كارل عيراني مثقّف في القانون. يحتلّ القانون عقله وبصيرته. لا يتنازل عن خلفيّته الثقافية القانونية في مقاربة أيّ أمر
تتمثّل أهميّة هذه الجائزة في كونها تعزّز دور القضاء اللبناني في إطار مكافحة الفساد. وهذا بالتحديد ما يحتاج إليه لبنان في ظلّ تفشّي الفساد في مفاصل الدولة ووجود مقاومة قويّة من قبل قوى سياسية تعرقل الإصلاحات. كذلك، تعكس الجائزة مدى التزام القاضي عيراني بترسيخ مبادئ العدالة والمساءلة بغضّ النظر عن الضغوط السياسية.
وفقاً لمعلومات “أساس”، الجائزة مخصّصة للأشخاص البارزين في مجال مكافحة الفساد في بلادهم. وهؤلاء يكونون عادةً من خارج مؤسّسات الدولة. إلا أنّه للمرّة الأولى ينالها قاضٍ من ضمن وزارة العدل اللبنانية تميّز بجهوده وبإقدامه على امتداد سيرته القانونية.
إقرأ أيضاً: سيادة الرئيس.. نتمنى أن نصدقك
شروط الترشيح كما وضعتها وزارة الخارجية الأميركية منذ أن خصّصت هذه الجائزة، هي عدم إعلان الفائز اسمه قبل أن يعلن ذلك وزير الخارجية الأميركي في احتفال علني. وهذا بالتحديد ما حصل مع القاضي كارل عيراني.