بعد أسبوعٍ واحدٍ من طلب الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله من “الصديق الوحيد القادر على المساعدة” الرئيس نبيه برّي أخذ المبادرة لإنهاء الأزمة الحكومية، سقطت كل المحرّمات بين بعبدا وبيت الوسط، حيث استخدمت “الأسلحة الثقيلة” في التراشق الكلامي والاتّهامات المتبادلة، التي وصفتها مصادر قريبة من عين التينة بـ”بيانات نَحر مبادرة برّي”.
وتزامن ذلك مع قفز البطريرك بشارة الراعي فوق مسعى رئيس مجلس النواب ليعيد إحياء مطلب “حكومة الأقطاب”، أي حكومة كاملة الدَسَم السياسي تنسِف جوهر المبادرة الفرنسية، وتُحرِج الحريري (ربّما لإخراجه)، وتُعيد إجلاس رموز المنظومة، بكلّ خلافاتهم وإرثهم “الثقيل” في هدم الدولة، إلى طاولة “الإنقاذ”.
والأهمّ في كلام البطريرك تقليله من أهميّة حصول حوار وطني لا يحتاج إليه عون والحريري، “حيث بإمكانهما الجلوس وجهاً لوجه”، نائياً بنفسه بالكامل عن مهمّة تسمية الوزيرين المسيحيّين “لأنّها مش شغلتي”.
وفي المعطيات الأوّلية أنّ حكومة الأقطاب “مُنتَج” لا يزال مرغوباً به من معظم القوى السياسية، باستثناء القوات اللبنانية وتيار المستقبل، إلا إذا غيّر الرئيس سعد الحريري رأيه في حكومة الاختصاصيين غير الحزبيين.
عمليّاً، لم يبلع الحريري “طُعم” جبران باسيل المتمثّل بإعلانه المتكرّر “تمَسُّكنا بالحريري لرئاسة الحكومة”. ومن خطابه في الأونيسكو، وصولاً إلى بيانات تيار المستقبل ردّاً على عون وباسيل، بدا أنّ الحريري يقطع شعرة معاوية مع “شريكه الدستوري” في التأليف، وشريك “الأمر الواقع” في مصير حكومته.
الأهمّ في كلام البطريرك تقليله من أهميّة حصول حوار وطني لا يحتاج إليه عون والحريري، “حيث بإمكانهما الجلوس وجهاً لوجه”، نائياً بنفسه بالكامل عن مهمّة تسمية الوزيرين المسيحيّين “لأنّها مش شغلتي”
أمّا في مقلب بعبدا فلم يكن السقف أقلّ انخفاضاً. فقد وَصف بيان رئاسة الجمهورية، الأوّل من نوعه منذ عام 2016، تعابير الحريري بـ”الوقحة والسوقيّة”، متّهماً الرئيس المكلّف بـ”الكذب والافتراء، وخداع الرأي العامّ، وتعمّد تعطيل تشكيل الحكومة، والتلاعب بنصوص الدستور”.
لكنّ البيان تضمّن بين سطوره تلميحاً إلى إمكان الذهاب نحو خيار الاستقالة من مجلس النواب عبر الإشارة إلى أنّ “مصلحة لبنان العليا تسمو فوق كلّ اعتبار، ومعها مصلحة الشعب الذي هو مصدر السلطات”.
وتشي الكواليس بتقدّم خيار “حكومة الانتخابات” عبر التفتيش عن شخصية من خارج نادي رؤساء الحكومات، خصوصاً في ظلّ استياء شيعيّ كبير من وصول المساعي الحكومية إلى الحائط المسدود.
ولم يتأخّر ردّ المستقبل، الذي لَعِب على وتر “انصياع رئاسة الجمهورية لمشروع الرئيس الظلّ جبران باسيل وطموحاته الشخصية”، فأشار إلى “مصادرة جناح خاص في القصر الجمهوري يخصّص للاجتماعات الحزبية للتيار وإدارة شؤون الرئاسة”.
نَشْر الغسيل الوسِخ تحت مظلّة مبادرة برّي، والطرح “المفاجئ” للبطريرك الراعي، جمّدا كلّ المهل والآليّات المقترحة حول الحقائب وتسمية الوزراء للخروج بتشكيلة ترضي طرفيْ النزاع.
في آخر “تحديث” للأزمة الحكومية، تؤكّد مصادر بيت الوسط لـ”أساس” أنّ “رغبة الحريري هي أقرب إلى الاعتذار، لكن لا قرار حتى الساعة، بانتظار ما سيترتّب على مسعى الرئيس برّي”.
أمّا مصادر عون وباسيل فتجزم أنّها “لا تزال تعطي الفرص للحريري الذي يثبت يوماً بعد آخر خوفه من تسلّم زمام رئاسة الحكومة. وقد أشار بيان رئاسة الجمهورية بوضوح إلى إفساح المجال أمام المساعي الجارية لإيجاد معالجات إيجابية للأزمة الحكومية التي افتعلها الرئيس المكلّف”.
وتفيد معلومات أنّ الاجتماع الذي عُقد ليل الاثنين بين باسيل و”الخليليْن” والحاج وفيق صفا، والذي وصل “مَحضره” بالتفصيل إلى بيت الوسط، شكّل صاعق الانفجار بين عون والحريري.
ويؤكّد مطّلعون أنّ “باسيل ناوَر لساعتين “وشال وحط” في التشكيلة، وأبدى إعجابه ببعض الأسماء التي طرحها الحريري في حكومة الـ24 وزيراً، ثمّ أكّد أنّ “فريقه السياسي لن يعطي الثقة لهذه الحكومة”، مع إصراره الكامل على “عدم جواز اختيار الحريري لوزيرين مسيحيّين، وإلا فإنّ رئيس الجمهورية يختار اسم وزير سنّي وآخر شيعيّ، وهذا ما كان يحصل في حكومات سابقة، أو يترك للبطريرك الراعي أو المجتمع المدني أمر اختيار وجوه مسيحية غير حزبية”.
نَشْر الغسيل الوسِخ تحت مظلّة مبادرة برّي، والطرح “المفاجئ” للبطريرك الراعي، جمّدا كلّ المهل والآليّات المقترحة حول الحقائب وتسمية الوزراء للخروج بتشكيلة ترضي طرفيْ النزاع
وقد حَصل توتّرٌ كبير بين النائب علي حسن خليل وباسيل، إذ اتّهم الأول رئيس التيار “بأنّه لا يريد تشكيل حكومة”. وفيما تردّد أنّ الحاج وفيق صفا سعى إلى عقد اجتماع ثانٍ ليل أمس، إلا أنّ الثنائي الشيعي بات مسلّماً، ومعهما وليد جنبلاط، بأنّ عون يرفض بالكامل التعايش مع الحريري حتى نهاية عهده، والأخير يتهيّب لحظة دخوله السراي لاعتقاده أنّه “سيحترق بنار الأزمات التي قد تبلع حكومته، وسيُقطع عنها التمويل اللازم في ظل الفيتو السعودي الثابت عليه”.
لكن في الساعات الماضية رَشَحت معطيات عن إمهال الحريري نفسه بعض الوقت قبل الاعتذار، مراهناً على ما ستحمله القمّة الأميركية – الروسية بين جو بايدن وفلاديمير بوتين في جنيف في 16 حزيران الجاري، بعدما رفض الروس اعتذار الحريري، الذي فاتحهم باحتمال أن يقدم عليه، إبّان زيارته لموسكو. وتقول مصادر معنيّة: “ربما يراهن الحريري على طلب روسي من واشنطن بالضغط على السعودية لتليين موقفها من الرئيس المكلّف وتوفير الغطاء له”. هذا في حين وردت معلومات من فرنسا بأنّ الفرنسيين أبلغوا الحريري أنّه لا مانع من تنحّيه، وكذلك فعلت الإمارات العربية المتحدّة.
إقرأ أيضاً: الاعتذار مسألة وقت
في المحصّلة، يقول مطّلعون على كواليس الطرفين: “يحاول الحريري وباسيل، في الوقت القاتل، تحميل أحدهما للآخر مسؤولية تعطيل تأليف الحكومة، لكن مع اختلاف الأسلوب. فباسيل يوحي بخبثٍ شديد بخلاف ما يُضمره، والحريري يعتمد سياسة شدّ العصب السنّي، لكن وفق إدارة مرتبكة، بالتوازي مع باسيل، “س الشريك في التعطيل”.
وممّا زاد من خطر هذه الخفّة واللامسؤوليّة في التعاطي مع الأزمة الحكومية أنّها ترافقت مع “نداءٍ أخيرٍ” سوداويّ للبنك الدولي يصنّف فيه الأزمة الاقتصادية في لبنان “إحدى أسوأ ثلاث أزمات عالمية منذ منتصف القرن التاسع عشر”. أمّا في البلد المنكوب، فالنقاش محتدم على الحقائب الدسمة ومرجعيّة مَن يسمّي الوزراء… ناهيك عن التهاء فطري بمحاولة البعض تكسير رؤوس البعض الآخر.