في 15 آب 2004، كان الجميع يدرك ويتلمّس ملامح مجزرة ستُرتكب في مدينة النجف، وتحديداً في الصحن الحيدريّ، حيث يحتمي مقتدى الصدر ورجاله وفلول ما يسمّى بـ”جيش المهدي”.
الصدر وقف وطالب أنصاره بمواصلة القتال ضدّ المحتلّ الأميركي إن قُتل. كلّ الوجوه شاخصة مذهولة، وأصوات النسوة بدأت تتعالى من داخل الصرح ومن المنازل حوله، والدبّابات الأميركية تحيط بالمكان من كل جانب، وطائرات الآباتشي تكاد توازي عدد الذباب الحائم فوق القبور المنتشرة في أكبر مقبرة في العالم عبر التاريخ.
الكلّ استسلم لِما سيحصل، من هم داخل الصحن، ومن هم خارجه. الكلّ بات يترقّب إمّا نهايته وإمّا نهاية هذه المشهديّة الدامية. وحده رجلٌ خرج منه رافعاً يديه، صارخاً بوجه الدبّابات الأميركية: “ممنوعٌ عليكم انتهاك حرمة هذا المكان المقدّس”.
رجلٌ خرج بجسده في الشارع المؤدّي إلى الصحن الحيدريّ ليواجه الحشود العسكرية الأميركية، في حين لم يكن أحد ليجرؤ أن يطلّ برأسه أو بجزء من شعر رأسه في مواجهة كلّ هذه الحشود. هذا الشخص اسمه مصطفى الكاظمي.
بعيداً من الشجاعة والفراسة، كان خروج الكاظمي مفاجئاً، إلا أنّ المفاجأة الكبرى تمثّلت بتوقّف الدبّابات الأميركية وانصياعها لصرخات الكاظمي. من تلك اللحظة ارتسمت صورة هذا الرجل، الذي ولد سنة 1967 في بغداد، واسمه الحقيقي مصطفى عبد اللطيف مشتت الغريباوي، في قضاء الشطرة التابع لمحافظة ذي قار.
الكلّ استسلم لِما سيحصل، من هم داخل الصحن، ومن هم خارجه. الكلّ بات يترقّب إمّا نهايته وإمّا نهاية هذه المشهديّة الدامية. وحده رجلٌ خرج منه رافعاً يديه، صارخاً بوجه الدبّابات الأميركية: “ممنوعٌ عليكم انتهاك حرمة هذا المكان المقدّس”
لنخبركم عنه أكثر: مصطفى الكاظمي هو عبارة عن كلّ شيء من دون أن يلتزم بشيء.
فقد صاهَرَ حزب الدعوة، الذي لم ينتسب إليه.
مارس الإعلام من دون أن يُفني حياته فيه. بدأ إعلاميّاً رياضيّاً لينتقل سريعاً إلى جريدة “المؤتمر” في لندن الناطقة باسم “المؤتمر الوطني” برئاسة أحمد الجلبي. والكاظمي هو الذي دوّن محاضر أول مؤتمر للمعارضة العراقية عُقد في لندن بعد تحرير الكويت، وكتب تقارير عنه في تلك الجريدة. ثمّ تسلّم رئاسة تحرير مجلّة “الأسبوعية”، التي يملكها الرئيس الحالي للعراق بُرهم صالح، وكانت تصدر عن مؤسسة كردية في مدينة السليمانية العراقية، خلال عاميْ 2010 و2011.
ثمّ قفز من الإعلام إلى التوثيق، فعمل مديراً تنفيذيّاً لمؤسسة “الذاكرة العراقية”، مساهماً في توثيق الشهادات والأفلام عن ضحايا حزب البعث. وأدار بعدها مؤسسة “الحوار الإنساني” ليعود أدراجه الى الإعلام مديراً لتحرير قسم العراق في موقع “المونيتور” الدوليّ.
كان رجل الاستخبارات العراقي الأوّل من دون أن يتدرّج في العمل الأمني، مثل نظرائه، مخبراً، ثم محقّقاً، فرئيس شعبة لينتهي رئيس جهاز.
كان رئيساً للحكومة من دون أن يحترف السياسة، فلا مناصب سياسية تبوّأها سبقت هذا المنصب الكبير.
هو ينساب كما تنساب مياه الجدول من دون أن تستفزّ الأنهار والينابيع، ومن غير أن يكون خطراً بطوفانه على الناس، فلا أعداء له في الصحافة ولا في السياسة ولا في التوثيق. مصطفى الكاظمي أشبه بمؤسسة فردية لا شركاء فيها. رئيسها شخص ومجلس إدارتها شخص يمتلك كمّاً ضخماً من العلاقات المحلية والخارجية وما بين المنزلتين ما يُصنّف بأنّه خطير.
هو رجل المرجعية الشيعية. وكيف لا يكون؟!
أليس هو من أنقذ النجف من مجزرته الموعودة.
وهو رجل أميركا الأول. وكيف لا؟ ووزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو هو أوّل من هنّأه برئاسة الحكومة وهذا المنصب الكبير.
هو صديق الكرد. وكيف لا؟ وهروبه من نظام صدام حسين كان عبر إقليم كردستان، سنة 1985، إلى إيران، ثمّ ألمانيا، ثمّ بريطانيا، لتُفتح له بعدئذٍ الأبوابُ، الكبير منها والصغير.
هو صديق المملكة العربية السعودية، إذ عرف، عندما تبوّأ رئاسة جهاز الاستخبارات، أن يوجد لنفسه في إدارتها أكثر من صديق.
كان رجل الاستخبارات العراقي الأوّل من دون أن يتدرّج في العمل الأمني، مثل نظرائه، مخبراً، ثم محقّقاً، فرئيس شعبة لينتهي رئيس جهاز
مصطفى الكاظمي الحازم الودود وفيٌّ لأصدقائه، قاسٍ قساوة الإنسان العراقي في عمله، لا يقطع مع صديق ولا حبيب. استدعى أصدقاءه ليعينوه بالاستشارة وكأنّهم شركاؤه في تحقيق هذا الإنجاز، فلبّى النداء مشرق عباس والقاضي رائد جوحي، فبات مديراً لمكتبه، وعلي المعموري الناشط السياسي الآتي من أستراليا، وهاشم داود الباحث الأنثروبولوجي، كما يقدّم نفسه.
لم يتردّد على رأس جهاز الاستخبارات، ولا على رأس الحكومة، في أن يطيح بالأسماء الكبيرة عند كل تقصير. حازمٌ، مبتسمٌ، ودودٌ.
..”شوف عيني”، هي العبارة الثابتة التي ينطقها مصطفى الكاظمي عندما يحادثك على رأس كلّ فقرة، وكلّ جواب، وقبل كلّ سؤال. يُشعر الجالسَ معه أنّه عينه (أعلى دلالات الحبّ والمودّة)، لكن على الجالس أن يتبصّر وأن يكون دقيقاً.
يقول أحد أصدقائه عنه إنّه أميركيّ الهوى سعوديّ القلب، إيرانيّ الالتزام، وفوق كلّ ذلك هو عراقيّ الوطنية. أمّا خصومه فيقولون إنّه أتى بغفلة من الزمن، وسوف يرحل في زمن قريب ليس ببعيد. يسجّلون عليه الكثير من الزلّات والسقطات في السياسة والإدارة والأمن، يتهمونه بالفشل بإعادة إعمار المناطق السنيّة في الموصل ونينوى، وبفشله بوقف الاغتيال السياسي وبالمسؤولية عن تفلّت الحشد الشعبي على الناس، لكنّهم لا يملكون القدرة على مهاجمته بالشيء الفظيع.
إقرأ أيضاً: العراق: إيران غاضبة من “عروبة” الكاظمي
إلا أنّ مصطفى الكاظمي، بعيداً من رأي الأصدقاء والخصوم، يُكتب له في صفحات التاريخ أنّه حوّل حبيبته بغداد من مساحة للصدام والدماء والتفجيرات وأصوات الـ”توك توك” إلى ساحة للحوار، وليس أيّ حوار. حوار يترقّبه العالم وشعوب المنطقة لأنّه حوار استراتيجيّ من شأنه أن يحلّ من المشاكل والهموم الكثير الكثير.
مصطفى الكاظمي لن يترشّح للانتخابات النيابية، كما صرّح بنفسه. هو يشبه مرشده الروحي “كنعان مكية”، كما يقول صديق آخر عنه. فما إن تُبحر في حياة “كنعان مكية”، حتّى تُدرك أنّ هذا الرجل، الذي بدأ مشواره السياسي كتروتسكي*، ثمّ أصبح صديقاً حميماً لـ”كريستوفر هيتشنز”*. وقد عاد كاتباً باسم مستعار هو “سمير الخليل”، متوِّجاً هذه المسيرة بكتابه “جمهورية الخوف”، الذي بيعت منه ملايين النسخات قبل أن يصبح صانع مخطط إسقاط صدام حسين من دون أن يكون أصيلاً في السياسة. هو تماماً كتلميذه مصطفى الكاظمي، الذي وصفه حيدر العبادي، رئيس الحكومة السابق، عندما عيّنه رئيساً لجهاز الاستخبارات قائلاً: “إنّه الرجل الخطير”.
* كريستوفر إيريك هيتشنز: مؤلّف وكاتب وصحافي بريطاني أميركي كان يصف نفسه أنّه إشتراكي ديموقراطي وماركسي ومناهض للشمولية، لينقلب على كلّ ذلك لاحقاً، فيدعم الحرب على العراق. تضمّنت كتاباته نقداً للشخصيّات العامّة مثل بيل كلينتون، هنري كيسنجر، الأم تيريزا، وديانا أميرة ويلز. لديه شقيق أصغر. هو أيضاً صحافي ومؤلّف، ويُدعى “بيتر هيتشنز”. وهو أحد أكبر رموز انتقاد الألوهية التي رأى فيها تقييداً للحرية الفردية.
* ليون تروتسكي: أحد زعماء الثورة الشيوعية في روسيا سنة 1917، والحركة الشيوعية العالمية، ومؤسّس المذهب التروتسكي الشيوعي، ومؤسّس الجيش الأحمر.