مقدمة: صدر للباحث الإيراني أراش عزيزي في تشرين الثاني الماضي كتابٌ يتناول سيرة قائد قوّة القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني، الذي اغتالته طائرة مسيّرة أميركية قرب مطار بغداد في 2 كانون الثاني عام 2020. عنوان الكتاب: “قائد الظلّ: سليماني، الولايات المتحدة والطموحات العالميّة لإيران (The Shadow Commander: Soleimani, The US and Iran’s Global Ambitions). أمّا الكاتب فهو صحافي إيراني كتب في النيويورك تايمز والواشنطن بوست وفي غيرهما، وفي مواقع إلكترونية عدة. وهو يعدّ دكتوراه في جامعة نيويورك عن الجماعات الاشتراكية والإسلامية في إيران وعلاقاتها مع العالم العربي خلال الحرب الباردة. وفي ما يلي مقتطفات من الكتاب.
في أوائل عام 1987، حوصرت البصرة من القوات الإيرانية في عملية “كربلاء الخامسة”، لكنّها فشلت، للمرّة السادسة، في الاستيلاء على المرفأ، على الرغم من فقدان أكثر من خمسين ألفاً من الجنود. أعقب ذلك، في 16 آذار، أحد أكثر الأحداث ترويعاً في الحرب، وكان مسرحه شمال العراق، إذ نجح الإيرانيون في الاستيلاء على بلدة حلبجة الحدودية بمساعدة الحزبيْن الكرديّيْن العراقيّيْن الرئيسيْن، الحزب الديموقراطي الكردستاني بقيادة مسعود بارزاني، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال الطالباني. وبعد 48 ساعة، شنّ العراق هجوماً بغاز الخردل وأنواع أخرى من غاز الأعصاب. إيران كانت وحدها، ولم يتلقّ العراق أيّ إدانة من الأمم المتحدة ولا من الولايات المتّحدة. كثير من القادة الإيرانيّين كانوا حائرين، ومنهم قاسم سليماني الذي قال لزملائه: “ليس لدينا خطة للحرب. بعد عملية “كربلاء الخامسة” لا أعلم حقاً ما هو الهدف مستقبلاً. ليس لدينا خطة حتّى للأشهر الستة المقبلة، ونحن كالتائهين، نتحرّك من هذا المكان إلى ذاك”.
حاول هاشمي رفسنجاني، الذي كان يتولّى قيادة القوات المسلّحة، إقناع الخميني بقبول القرار الدولي رقم 598 القاضي بوقف إطلاق النار، فرفض. لكنْ بعد إسقاط الطائرة المدنية الإيرانية فوق الخليج بصاروخ أميركي في 3 تموز عام 1988، قَبِلَ الخميني “تجرّع السمّ” في 20 من الشهر نفسه في خطاب مؤثّر.
كثير من القادة الإيرانيّين كانوا حائرين، ومنهم قاسم سليماني الذي قال لزملائه: “ليس لدينا خطة للحرب. بعد عملية “كربلاء الخامسة” لا أعلم حقاً ما هو الهدف مستقبلاً. ليس لدينا خطة حتّى للأشهر الستة المقبلة، ونحن كالتائهين، نتحرّك من هذا المكان إلى ذاك”
كان قاسم سليماني في جبهة القتال، حين سمع بقرار الخميني. لم يصدّق ما سمعه، وبكى. ثمّ حاول الذهاب إلى طهران ولقاء الخميني وإعلان الولاء له. قيل له ابقَ مكانك، فالإمام لا يستقبل أحداً.
بعد وفاة الخميني في 3 حزيران 1989، ووصول رفسنجاني إلى منصب رئاسة الجمهورية، حيث تولّى الحكم ولايتيْن بين عاميْ 1989 و1997، ودعم وصول الرئيس السابق علي الخامنئي إلى منصب المرشد الأعلى للثورة، بدأت مرحلة جديدة عنوانها إعادة البناء في الداخل والانفتاح السياسي على الخارج. لكن ما مصير مئات آلاف المقاتلين التابعين للحرس الثوري؟ وما مصير الحرس الذي أصبح القوة الرئيسة في جبهات القتال مع العراق، ولديه فرق متنوّعة تؤلّف جيشاً متكاملاً؟ وماذا يفعل قاسم سليماني الذي ما زال في مطلع الثلاثين؟ هل من الممكن أن يعود إلى عمله السابق في مؤسّسة مياه كرمان؟
انخرط الحرس الثوري، في عصر رفسنجاني، في عمليات إعادة البناء، وتوسّع في المجالات المدنية، عبر مؤسّسات اقتصادية وأكاديمية، مكوّناً ما يشبه دولة موازية. ووقع الزلزال السياسي عام 1997، عندما فاز رجل الدين الإصلاحي محمد خاتمي بالانتخابات الرئاسية. فكان ردّ الخامنئي بتعزيز الحرس الثوري. وفي كانون الثاني عام 1998، عُيّن قاسم قائداً لقوّة القدس في الحرس الثوري، وهي كانت منذ تأسيسها، قبل عشر سنوات، تشكيلاً محاطاً بالسرّيّة. ومن قائد فرقة في الحرس في نهاية الحرب مع العراق، إلى قائد الجناح الخارجي للحرس حتّى اغتياله عام 2020، كانت لسليماني مسيرة حافلة بالأحداث ما بين أفغانستان وفلسطين وصولاً إلى أقصى الجزيرة العربية في اليمن.
كان قاسم سليماني في جبهة القتال، حين سمع بقرار الخميني. لم يصدّق ما سمعه، وبكى. ثمّ حاول الذهاب إلى طهران ولقاء الخميني وإعلان الولاء له. قيل له ابقَ مكانك، فالإمام لا يستقبل أحداً
في صيف 2006، وكان العنف في بغداد قد بدأ يتراجع، أرسل سليماني إلى الجنرال ديفيد بترايوس، الذي سيقود القوّات الدولية في العراق في العام التالي: “أرجو أن تكون تتمتّع الآن بالسلام والهدوء في بغداد. لقد كنتُ مشغولاً في بيروت!”. لقد تحدّى كلّ التوصيات الأمنية وذهب إلى بيروت، حين كان الحزب يقود مهمّة رفيعة المستوى: قتال إسرائيل. الحاج قاسم سيواجه الآن العدو الصهيوني مباشرة، وهو الذي تحدّث عنه لسنوات. كان قاسم سليماني قد التقى قيادة الحزب في بيروت، عقب تسلّمه قيادة قوّة القدس، عندما كانت معلوماته عن الملف اللبناني تعادل صفراً. سرعان ما وقعت الألفة بين سليماني وعماد مغنية، وبدرجة أقلّ مع مصطفى بدر الدين، والسيّد حسن نصر الله. وستتطوّر العلاقة بين الثلاثة، مع الوقت، تطوّراً يحوِّل فيلق القدس إلى جيش أمميّ.
إقرأ أيضاً: سيرة سليماني (4): الحرب التي صنعت شخصيّته
وقبل يوم من شنِّ الجيش الإسرائيلي حربه الشاملة على لبنان في تموز 2006، ردّاً على عمليّةٍ قام بها الحزب ضدّ دورية إسرائيلية متجاوزاً الخطّ الأزرق، كان قاسم سليماني في بيروت. ومع بدء الحرب، كان في دمشق، فاتّصل بنصر الله، وأخبره أنّه سيكون في قلب الأحداث في لبنان. فوجئ نصر الله بكلام سليماني. كيف يصل إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، والطرق مرصودة إسرائيلياً، والجسور مدمّرة؟ أصرّ سليماني: “سآتي مشياً إن اقتضى الأمر”. جاء عماد مغنية إلى دمشق، وتولّى مرافقة سليماني إلى الضاحية عبر طرق متعرّجة، مشياً تارةً، وعبر وسائل النقل تارةً أخرى. يتذكّر سليماني تلك الأيام الصعبة، حين كان في غرفة واحدة مع نصر الله ومغنية وهم يشاهدون انهيار بناء إثر آخر بالقصف الإسرائيلي. أدرك سليماني ومغنية أنّه لا بدّ من مغادرة المكان، على الرغم من رفض نصر الله. اختبأ الثلاثة تحت شجرة طوال الليل. استعاد نصر الله رباطة الجأش بدعم معنويّ من سليماني ومغنية. ركب الثلاثة درّاجات نارية، وزاروا جبهات القتال، وباتوا لياليهم في القرى تحت النار، وخطّطوا للردّ. بدأت صواريخ الحزب تنهمر على إسرائيل، ووصلت إلى مدى لم تصل إليه من قبل. لجأ الإسرائيليون إلى عملية برّيّة سُمّيت “خيوط الفولاذ”، ردّاً على خطاب نصر الله عام 2000، عقب الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب، الذي وصف فيه إسرائيل بأنّها “أوهن من بيت العنكبوت”. لكنّ بنت جبيل صمدت عام 2006، ولم تسقط.
في الحلقة المقبلة: ماذا كانت وصيّة قاسم سليماني قبل اغتياله؟