لا حدود لوقاحة السلطة في تعاطيها مع الأزمة الأكثر إيلاماً وخطورةً في تاريخ لبنان الحديث. الحرب العسكرية أهوَن؟ طبعاً أهون. في الحروب، وما أكثرها في سجلّ اللبنانيين، قد تجد ملاذاً في بقعة آمنة تتلطى فيها إلى حين وقف القصف. لكن في حرب التجويع والإفقار، حين تنهب الدولة مواطنيها، لا ملاذ آمناً ولا سقف يؤوي “المنكوبين”. كل بقعة يوجدون فيها موصومة بالخطر الشديد المفتوح على احتمالات… أكثر خطورة.
إدارة الظهر لـ”الكابيتال كونترول” هي واحدة من أبشع جرائم السلطة بحقّ اللبنانيّين، تضاف إلى لائحة جرائم أخرى تجاوزت سرقة أموال المودعين والانهيار المالي والتلاعب بالعملة الوطنية إلى اعتماد أسوأ عملية دعم لشراء الموادّ الغذائية والأساسية، على الإطلاق، إذ استفاد منها التجّار وأصحاب الاحتكارات الذين “تربَلوا” (ضاعفوها ثلاث مرّات) ثرواتهم على حساب من يُفترض أن يشملهم الدعم من المحتاجين عبر بطاقات تمويلية، وأتاح لهم هذا الدعم المزيد من “التسهيلات” في تهريب الأموال إلى الخارج.
يُعتبر الكابيتال كونترول واحداً من الشروط الأساسية التي يفرضها صندوق النقد الدولي على الدول التي تطلب مساعدته. لكنّ السلطة القائمة لم “تكسر عين” المجتمع الدولي بحكومة تكون ممرّاً للإصلاحات، فكيف بقانون يضع قيوداً على العمليات المالية والتحويلات والاستنسابية واللامساواة في الخدمات المصرفية، وضبط استخدام أموال القروض الدولية بما يضمن عدم “الشفط!”
إدارة الظهر لـ”الكابيتال كونترول” هي واحدة من أبشع جرائم السلطة بحقّ اللبنانيّين، تضاف إلى لائحة جرائم أخرى تجاوزت سرقة أموال المودعين والانهيار المالي والتلاعب بالعملة الوطنية إلى اعتماد أسوأ عملية دعم لشراء الموادّ الغذائية والأساسية
ولا يزال وزراء في الحكومة، على رأسهم حسان دياب، يتحدّثون عن “مَهزلة طرح مشروع قانون الكابيتال كونترول على مجلس الوزراء، ثم سحبه بأمر من المرجعية السياسية لوزير المال نبيه بري، مع تيقّنهم آنذاك أنّ المشروع كيفما “بَرَم” كان يحمي رموز سلطة المال والنفوذ، خصوصاً عبر تشريع استثناءات لأصحاب “البيزنس” في الخارج. أمّا حاكم مصرف لبنان فيتصرّف وكأنّه خارج دائرة حالة الطوارئ، ولا يكلّف نفسه أصلاً إبلاغ رئيس الحكومة بما تبقّى لديه من احتياطي.”
خفّة لبنان أجّلت المساعدة
حصل ذلك على مرأى من حكومة عاجزة ومكبّلة وغير قادرة على المحاسبة إلا بـ”صفصفة” الكلام و”صناعة” سياسة دعم ساهمت، عن غباء، في تهريب الأموال وتحصيل التجّار لثروات غير مشروعة. فيما تقول مصادر معنية إنّ الخفّة التي طبعت التعاطي مع إقرار القانون كانت أحد أسباب توقّف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وأيضاً أحد أسباب سوء العلاقة بين حسان دياب والرئيس برّي. والأهمّ أنّ الحكومة لم تستطع وقف رياض سلامة عند حدّه، فلا يزال تحويل الأموال إلى الخارج بعناوين مختلفة ومن أموال المودعين يجري تحت “إشرافه” المستمرّ.
يقول الخبير المالي وليد أبو سليمان لـ”أساس”: “العديد من الدول اعتمدت الكابيتال كونترول خلال أيام قليلة من حصول الأزمة. واليونان وقبرص النموذجان الأقرب إلينا، لكن في “الحالة اللبنانية” أتاح التهرّب المقصود من إقرار الكابيتال كونترول تبخُّرَ 16 مليار دولار ذهب منها تقريباً 9 مليارات دولار على الدعم منذ 17 تشرين 2019 إلى اليوم، فيما تُرسم علامة استفهام كبرى حول مبلغ الـ6 مليارات دولار الذي هُرّب إلى الخارج. مصرف لبنان يقول إنّه مطلوبات والتزامات للمصارف المحلية لدى مصارف المُراسلة دفعها من الاحتياط، فيما الكلّ يعلم أنّ جزءاً كبيراً من هذا المبلغ حُوّل إلى الخارج، ولا نعلم حتى اليوم ما هو الحجم الحقيقي لتهريب أموال النافذين”.
لا يزال وزراء في الحكومة، على رأسهم حسان دياب، يتحدّثون عن مَهزلة طرح مشروع قانون الكابيتال كونترول على مجلس الوزراء، ثم سحبه بأمر من المرجعية السياسية لوزير المال نبيه بري، مع تيقّنهم آنذاك أنّ المشروع كيفما “بَرَم” كان يحمي رموز سلطة المال والنفو
فيما تؤكّد مصادر مطّلعة لـ”أساس” أنّ “تهريب الأموال إلى الخارج، وبأشكال مختلفة، لم يتوقّف وتخلّلته تسهيلات لكبار المودعين، حُرِم منها صغار المودعين. واستخدم العديد من السياسيّين سطوتهم ونفوذهم من أجل إتاحة خدمات مصرفية لمحسوبين عليهم لغايات شخصية وانتخابية”. لكنّ الدعم شكّل في المقابل مزراباً فاضحاً لتبخّر أموال الاحتياط.
ويقول أبو سليمان إنّ “الكثير من فواتير الدعم ضُخِّمت في سبيل تهريب الأموال”، واصفاً ما حصل منذ بدء الانهيار المالي بعد 17 تشرين بـ”الجريمة المنظّمة التي تُرتكب للمرّة الأولى بحق شعبٍ يُحمَّل مسؤولية هذا الانهيار نيابة عن الآخرين من خلال أمواله المدّخرة بالدولار والتي قبضها بالليرة مع “هيركات” وصلت إلى 80%”.
إقرأ أيضاً: قانون الكابيتال كونترول مجدداً: إبحثوا عن صندوق النقد والدعاوى
ويوضّح أبو سليمان أنّ “إقرار الكابيتال كونترول اليوم سيكون للمحافظة على ما تبقّى من احتياط، وللاتفاق مع صندوق النقد الدولي، لأنّ هذا القانون شرط أساسي لمراقبة كل دولار من قبل IMF، لكن من دون حكومة لا مجال للحديث عن أيّ إجراءات بإشراف صندوق النقد الدولي.”
مرَّ عامٌ على طرح الكابيتال كونترول من دون أن يُقتفى له أيّ أثر يوحي بنيّة السلطة السير به في ظل مصالح مشتركة تقاطعت عند تطييره، مع تسجيل موقف صلب لرئيس الجمهورية الذي حاول فرضه على جدول الأولويّات مع التدقيق الجنائي، وجعله شرطاً من شروط تأليف الحكومة.
يُذكَر أنّ التقارب الظرفي، الذي جمَعَ بري وجبران باسيل العام الفائت، لم يُسهِم في تذليل العقبات أمام قانون تُشرَب القهوة على “نيّته” في مجلس النواب، وضُرِبت الغاية منه بعدما استراحت أموال المحظيّين في مصارف دول العالم، وسمح عدم إقراره بـ”ضروب” من التشبيح والزعرنة لمّا تنتهِ، ارتكبتها المصارف بحقّ المودعين المغلوب على أمرهم، فيما لا يزال الكابيتال كونترول في لبّ أحاديث الزائرين والوفود الأجنبية مع المسؤولين اللبنانيين منذ بدء الأزمة.