دستورياً، يعتبر المرشد الأعلى للنظام ووليّ الفقيه في إيران هو القائد الأعلى للقوّات المسلّحة، وهو الذي يتحمّل مسؤولية الإشراف على كل شؤون المؤسّستين العسكريتين، الجيش النظامي وقوات حرس الثورة الإسلامية ويحدّد ميزانيتهما، بحيث لا تخضعان لإشراف أيٍّ من المؤسّسات الرقابية التابعة للدولة والحكومة، وترتبطان، وإن كانتا تُمرّران عبر ميزانية الدولة العامة، مباشرة بمكتب “بيت” المرشد. وهما غير خاضعتين لأيّ مساءلة محاسبية باعتبارهم من الأسرار الاستراتيجية للنظام.
وقد حدث أن قطع المرشد الطريق أمام مجلس خبراء القيادة، وحال دون إجراء عملية تحقيق ومراقبة في المؤسستين العسكرية والأمنية، عندما أراد هذا المجلس تطبيق النصوص الدستورية والقانونية التي تعطيه الحق في التحقيق في أعمال كل المؤسسات التابعة للمرشد وبيته. وقد امتنع المرشد على مدى عقود من تفويض صلاحياته العسكرية إلى رئيس الجمهورية، حاصراً بشخصه صلاحية تعيين كبار ضباط القوات العسكرية البرية والبحرية والجوية في الجيش وحرس الثورة وقيادة الشرطة والأمن العام وقيادة الأركان المشتركة، وترقيتهم.
قد تكون ضروريةً هذه المقدمة للقول إنّ إعلان عدد كبير من ضباط حاليين وسابقين من حرس الثورة، ترشّحهم أو نيّتهم الترشّح لسباق الانتخابات الرئاسية المقبلة، يمثّل ظاهرة غير مسبوقة في الانتخابات السابقة، باستثناء ما يمكن اعتباره ترشّحاً مداوماً ومستمرّاً للقائد الأسبق للحرس وسكرتير مجمع تشخيص مصلحة النظام الجنرال محسن رضائي. ومن بين هؤلاء المرشّحين: مستشار المرشد وزير الدفاع السابق حسين دهقان الذي أعلن ترشّحه رسمياً، والجنرال سعيد محمد رئيس مقرّ “خاتم الأنبياء” (الذراع الاقتصادي لحرس الثورة) الذي أعلن استقالته من منصبه بهدف الترشح للانتخابات، إلى جانب سلفه في رئاسة المقر وزير النفط الأسبق الجنرال رستم قاسمي، والجنرال عزت الله ضرغامي الرئيس الأسبق لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون، في حين لم يحسم رئيس البرلمان الحالي الجنرال محمد باقر قاليباف أمره في دخول السباق من عدمه.
وقد حدث أن قطع المرشد الطريق أمام مجلس خبراء القيادة، وحال دون إجراء عملية تحقيق ومراقبة في المؤسستين العسكرية والأمنية، عندما أراد هذا المجلس تطبيق النصوص الدستورية والقانونية التي تعطيه الحق في التحقيق في أعمال كل المؤسسات التابعة للمرشد وبيته
ولا فرق بين أيّ من هؤلاء، سواء الذين ما زالوا في السلك العسكري، أو الذين قدّموا استقالاتهم وشغلوا منصباً مدنياً وإدارياً في الحكومة أو الدولة. فهم جميعاً خاضعون للضوابط العسكرية، التي تفرض عليهم الحصول على موافقة المرشد والقائد الأعلى للقوات المسلحة في حال قرّروا خوض السباق الرئاسي والانتخابات. ولا بدّ لهم من أن يتشاوروا مع المرشد والقائد الأعلى للحصول على موافقته أو عدم ممانعته. ومَن أقدم على خطوة إعلان خوض السباق الرئاسي فقد حصل على الضوء الأخضر أو عدم معارضة المرشد لهذا القرار.
إلا أن تعدد الأسماء الطامحة للوصول إلى رئاسة السلطة التنفيذية من داخل المؤسسة العسكرية، إضافة إلى إعلان أشخاص آخرين من المحسوبين على صقور التيار المحافظ وأحزابه التقليدية، يعزز الاعتقاد، الذي باتت مقتنعة به أكثر مراكز القرار الإيرانية والدولية، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، بأنّ الرئيس الإيراني المقبل سيكون من المحافظين. لا سيّما أنّ قوى التيار الإصلاحي وأحزابه لم تستطع حتى الآن التوصّل إلى قواعد مشتركة بينها تسهّل آلية الاتفاق على مرشح يمثّلها، ويكون قادراً على ترميم صورتها لدى الشارع الإيراني، ويكون محفّزاً لهذا الشارع على المشاركة ورفع نسبة التصويت، التي من المفترض أن تكون لصالح مرشّحهم. وهو عجز يعود إلى أسباب ذاتية داخل التيار الإصلاحي، هي انهيار الثقة الشعبية به من جهة، وصعوبة تقديم شخصية تضاهي شخصية الرئيس الأسبق محمد خاتمي من جهة أخرى، إضافةً إلى سبب موضوعي يتعلق بالدور الذي يؤدّيه مجلس صيانة الدستور، إذ يقف بالمرصاد لإسقاط أهلية أيّ مرشح ولإزاحته إذا كان يمثّل خطراً حقيقياً أو يهدّد مرشّح النظام.
هناك أسباب تتذرّع بها القوى الإصلاحية والمعتدلة والمدنية لتسويغ تمسّكها بمبدأ المشاركة في السباق الرئاسي على الرغم من كل العوائق والمخاوف التي تعتريها وتعتريهم، وفي مقدّمها السعي ما أمكن إلى إبعاد شبح عسكرة الدولة وما يمكن أن تؤسّس له من تغييرات جذرية في طبيعة النظام والسلطة. وقيادات في المعسكر المحافظ لا تتردّد في الاعتراف وتأكيد الانقسام القائم داخل المجتمع السياسي الإيراني بين إصلاحيين ومحافظين بما يتعارض مع رفض المرشد الأعلى الاعتراف بهذه الحقيقة. ووصل الأمر بها إلى لتكريس المداورة في السلطة بين التيارين، معتبرةً أنّ المرحلة المقبلة يجب أن تكون للمحافظين بعد ثماني سنوات من رئاسة حسن روحاني، الذي وصل على حصان الإصلاحيين إلى رئاسة الجمهورية.
عدد الأسماء الطامحة للوصول إلى رئاسة السلطة التنفيذية من داخل المؤسسة العسكرية، إضافة إلى إعلان أشخاص آخرين من المحسوبين على صقور التيار المحافظ وأحزابه التقليدية، يعزز الاعتقاد، بأنّ الرئيس الإيراني المقبل سيكون من المحافظين
ما يمكن وصفه بـ”هجوم المحافظين” وتعدّد المرشحين في صفوفهم، قد يشير إلى وجود حالة من الصراع الداخلي. لكنّه قد يكشف بعداً آخر ذا علاقة بمستقبل العلاقات الإيرانية مع المجتمع الدولي. خصوصاً أنّ المرحلة المقبلة ذاهبة إلى تفاهمات مع عواصم القرار، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية، قد تؤدّي إلى الخروج من تحت العقوبات وعودة تدفّق الاستثمارات وتحرير الأموال والأرصدة المالية الإيرانية المجمّدة في الخارج. ومن المفترض أن تتولّى الحكومة المقبلة إدارة هذه الملفات السياسية والاقتصادية والمالية. ولذلك سيعمل هذا التيار على منع التيار الإصلاحي أو غيره من استثمار هذا التحوّل والانفتاح لتعزيز مواقعه داخل السلطة وقطف ثمار الجهود السياسية والتفاوضية. خصوصاً أنّ تولّي ادارة المرحلة المقبلة قد يكون مخرجاً للتيار المحافظ لاستعادة قواعده الشعبية والتمثيلية، وفرصةً لإثبات صوابية السياسات المتشددة، التي اعتمدها داخلياً وخارجياً، لإخراج إيران والنظام من دائرة الخطر والتمسّك بالحقوق الإيرانية.
إقرأ أيضاً: إيران تريد اتفاقاً نووياً جديداً… كذلك بايدن؟
وتقدّم مؤسسة “الحرس” نفسها على أنّها الجهة المحافظة التي أدّت الدور الأكبر في الوصول الى هذه المرحلة، وفي مواجهة الضغوط، وأنّها أكثر تأثيراً من حكومة روحاني وفريقه السياسي والاقتصادي والصحي في إدارة الأزمات والتصدّي للتحدّيات. إن كان ذلك في ما يتعلق بالدور والنفوذ الإقليميين، أم في موضوع البرنامج الصاروخي وحصريته بها، أم في الجهود التي بذلتها في معالجة تداعيات أزمة كورونا، أم في معالجة أزمة شحّ المواد التموينية وتقديم المساعدات للطبقات الفقيرة والتعامل مع الكوارث الطبيعية التي مرّت بها إيران في السنوات الأخيرة. إضافةً إلى أنّها كانت الدعامة الحقيقية للمفاوض الإيراني في صموده أمام الضغوط الأميركية في المفاوضات النووية والعقوبات الاقتصادية. ولذلك كلّه ترى نفسها الأحقّ في أن تكون رئاسة الجمهورية والسلطة التنفيذية بيد أحد أفرادها الذين ساهموا في “نجاح” هذه المعركة.