كانت الحرب العراقية – الإيرانية في أوجها عام 1986، وكان نظام حافظ الأسد قد انتظم فيها، جهاراً نهاراً، ضمن الصفّ الإيراني.
فجأةً حدثت “معجزة” في بلدةٍ سوريَّةٍ تقع على الحدود العراقية!
كانت البوكمال آنذاك بلدةً ذات هوىً عراقيّ صريح، وقد أحبَّ أهلُها صدَّام حسين وتفاعلوا مع حربه وكأنّهم جزءٌ من العراق. وعموماً كان هذا الحالُ حالَ الكثيرين من سكَّان محافظة دير الزور التي تتبع لها بلدة البوكمال.
لكنَّ موقع البلدة المتداخل مع جغرافيا العراق، وعلاقاتها الاجتماعية القوية جداً مع الجوار العراقيّ، جعلا البوكمال المكان السوريّ الأكثر تجسيداً لهذا الهوى العراقيّ، حتّى أصبحت موضع قلق وتوجُّس دائمَيْن لدى استخبارات الأسد الأب.
“المعجزة” التي ظهرت، عامذاك، في البوكمال، تجسّدت في تيس حلوب (وهي ظاهرة نادرة سببُها خللٌ هرمونيٌّ).
كانت البوكمال آنذاك بلدةً ذات هوىً عراقيّ صريح، وقد أحبَّ أهلُها صدَّام حسين وتفاعلوا مع حربه وكأنّهم جزءٌ من العراق
من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، انشغلت سوريا بأخبار هذا التيس الذي قيل إنَّ لحليبه خصائصَ سحريةً تشفي من الأمراض وتعالج العقم وتجلب الرزق للتجَّار!
ومن كلّ حدبٍ وصوبٍ جاءت الباصات مُقلَّةً الزائرين. حتّى إنَّ البوكمال، التي لم يكن فيها يومذاك أيُّ فندق، ازدهرت بالفنادق. آلاف، إن لم يكن عشرات الآلاف، من الناس توافدوا إليها لشراء بضع قطرات من حليب هذا التيس العجيب.
وتناسى إعلام الأسد كلَّ شعارات التقدُّمية ومحاربة الجهل والتخلُّف، وراح يغطّي أخبار التيس، عبر الراديو والتلفزيون والصحف، شاغلاً السوريين بمعجزات حليبه وبطول قرونه وضخامة أثدائه.
وانشغل أهل البوكمال وعموم أهالي المنطقة الشرقية بالحدث العجائبي الذي حوَّل منطقتهم إلى وجهةٍ سياحيةٍ… وضاعت أخبار الحرب العراقية – الإيرانية بين أثداء ذلك التيس.
***
سردتُ هذه الحكاية لمناسبة خبر تمارُض بشّار الأسد وزوجته بفيروس “كورونا”.
تناسى إعلام الأسد كلَّ شعارات التقدُّمية ومحاربة الجهل والتخلُّف، وراح يغطّي أخبار التيس، عبر الراديو والتلفزيون والصحف، شاغلاً السوريين بمعجزات حليبه وبطول قرونه وضخامة أثدائه
فالإعلان الرسميّ لخبر المرض اقتصر الناس على قراءته من حيث المغزى والهدف، لأنَّ أحداً لم يُصدِّق الخبر. فالجميع لا يزال يذكر أنَّ أسماء الأسد نجحت في إدخال النسخة الأحدث من “آيفون” (آيفون 12) إلى السوق السورية قبل طرحها في السوق الأميركية نفسها. فهل هي عاجزة حقّاً عن إدخال لقاح “فايزر” أو “موديرنا” لها ولزوجها؟
لقد اعتقد الأسد أنَّ حيلة إلهاء الشعب بقضايا هامشية، صالحةٌ في كلّ زمان ومكان، وأنَّ خبر مرضه يمكن أن يصرف أنظار أنصاره عن مسؤوليته الشخصية عمّا وصلوا إليه من بؤسٍ معيشيّ.
إقرأ أيضاً: الأسد: المشكلة في برامج الطبخ!
لكنَّ الفرق بين حكاية تيس البوكمال الحلوب وحكاية الرئيس المُصاب بـ”كورونا”، هو فرق جوهريّ، ما دامت المعاناة، التي يُراد إلهاء الشعب عنها، لا تحدث في بلدٍ مجاور بل في سوريا نفسها، وفي جسد السوريّ نفسه: في معدته الفارغة وعلى جلده المرتعش برداً.
بعد انتهاء مدَّة الحجر، خرج بشار الأسد إلى الإعلام معلناً انتصاره على المرض، في ظلّ غياب شبه تامّ لتفاعل حاضنته الشعبية مع خبر “الشفاء” الذي لا يبدو بأنه عديم الصلة بخرافة الشفاء التي نُسبت، في الثمانينيات، لحليب تيس البوكمال.