في اليوم التالي لتعيين القاضي طارق البيطار محقّقًا عدليًّا في قضية انفجار مرفأ بيروت في 19 شباط ، باشر رئيس محكمة جنايات بيروت “السابق” وضع يده فورًا على الملف.
لا تتوقع مصادر قضائية رفيعة أن يستهلك المحقّق العدلي الجديد وقتًا طويلًا قبل أن يُمسِك بمفاصل القضية المعقّدة والمتشعّبة. مهمّة ليست سهلة بوجود 37 مدّعًى عليهم في القضية، و25 موقوفًا تشاركت النيابة العامة التمييزية، والمحقّق العدلي السابق فادي صوّان، في الادّعاء عليهم، إضافة إلى آلاف الصفحات من محاضر التحقيق والاستجوابات، وادّعاءات جديدة متوقعة “على الطريق”، قد تشمل سياسيين وقضاة وأمنيين.
الأهمّ هو المسار السابق في التحقيقات الذي انتهجه صوّان وأثار الكثير من الجدل بين مؤيّد ورافض له، ويفترض أن يشكّل “دَرسًا” في “حسن إدارة” التحقيق.
بعكس “الجولة الأولى” من البحث عن محققٍ عدليّ في آب الماضي، بادر رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود هذه المرّة، وفور تبلّغه قرارَ محكمة التمييز الجزائية نقل ملفّ الدعوى إلى قاضٍ آخر، إلى التواصل مع وزيرة العدل ماري كلود نجم، مؤكّدًا لها أنّ اجتماعات المجلس ستكون مفتوحة حتّى تعيين محققٍ عدلي، وبانتظار اقتراح الأسماء في ظلّ واقع ضاغط جدًّا لا يحتمل المناورات.
لا تتوقع مصادر قضائية رفيعة أن يستهلك المحقّق العدلي الجديد وقتًا طويلًا قبل أن يُمسِك بمفاصل القضية المعقّدة والمتشعّبة
لكنّ المجلس تفاجأ بطرح الوزيرة نجم مجددًا اسم القاضي سامر يونس، الذي سبق أن رفضه مجلس القضاء الأعلى، ما دفع يونس يومها إلى إصدار بيان خارج عن المألوف، أكّد خلاله أنّه ليس محسوبًا على أيّ طرف سياسي، معدّدًا القرارات الجريئة التي أصدرها “ولم يطلب من أجلها الحماية”، قائلًا: ” كلّهم يخافونني، لأنّني لا أخاف ولا أهاب أحدًا”.
لكنّ مطّلعين يجزمون “بعدم وجود مشكلة لأعضاء مجلس القضاء الأعلى مع القاضي سامر يونس. لكن للمجلس سلطة التقدير وهذا حقّه، كونه يعطي الموافقة على الاسم. والمجلس يعتبر أنّ هناك قضاةً أفضل لهذه المهمّة تحديدًا”.
ما لم يُفهَم لدى أعضاء مجلس القضاء الأعلى، هو مسارعة وزيرة العدل إلى طرح اسم سبق أن رفضه المجلس. التفسير الوحيد لدى مصادر قضائية “هو محاولة الوزيرة الإيحاء بأنّها تقترح أسماء وأنّ التعطيل يأتي من جانب المجلس”.
ومع اقتراح وزيرة العدل اسم القاضي بيطار تغيّرت المعادلة، وأتت موافقة مجلس القضاء الأعلى بعد جلسة عقدها مع بيطار.
وفق المعلومات، لم يتغيّر رأي القاضي بيطار هذه المرّة عن المرحلة التي اقتُرِحَ خلالها اسمه في آب الماضي، وفضّل حينها مجلس القضاء الأعلى الذهاب نحو خيار آخر.
ما لم يُفهَم لدى أعضاء مجلس القضاء الأعلى، هو مسارعة وزيرة العدل إلى طرح اسم سبق أن رفضه المجلس. التفسير الوحيد لدى مصادر قضائية “هو محاولة الوزيرة الإيحاء بأنّها تقترح أسماء وأنّ التعطيل يأتي من جانب المجلس”
فخلال الاجتماع يوم الجمعة الفائت، سُئِل بيطار عمّا إذا كان مستعدًّا للسير بتحقيق المرفأ، فأتى جوابه مطابقًا لما قاله سابقًا: “إذا هناك غيري فيكم تعفوني. وأنا أفضّل أن لا أستلم المهمّة. لكن إذا كان مجلس القضاء الأعلى يريدني فأنا لن أتهرّب وسأقوم بواجبي”.
في الاجتماع نفسه رأى أعضاء مجلس القضاء الأعلى، أنّ الحسم مطلوب سريعًا لأنّ قضية المرفأ لا تحتمل أيّ تأخير. كما أنّ هناك حاجة للقاضي بيطار الذي يملك، وفق مصادر قضائية، مقوّمات مهنية مدعّمة بقرارت “شجاعة”، ولا شبهة سياسية عليه.
وخلال الجلسة، ما طلبه سابقًا مجلس القضاء الأعلى من صوّان، عاد وطلبه من القاضي بيطار قبل تعيينه، فكانت الأسئلة التالية: “هل أنت متردّد، وهل ستفعل المستحيل لإظهار الحقيقة، وهل لديك خطوط حمر؟”، فأجاب بيطار: “لستُ متردّدًا، وسأفعل كل ما بوسعي لإظهار الحقيقة ومحاسبة من يجب محاسبتهم، وليس لديّ خطوط حمر”.
وتقول مصادر قضائية رفيعة في هذا السياق: “طَلَبَ مجلس القضاء الأعلى فقط أن يكون التحقيق شفّافًا ومن دون خطوط حمر. وليس بوسعه أن يطلب أكثر من ذلك. مجلس القضاء ليس فريقًا بل يشكّل مظلّة ودعمًا معنويًّا للقاضي”.
هناك من يسأل هنا: “لكن أين دعم مجلس القضاء الأعلى للقاضي صوّان الذي تعرّض لاستهداف مباشر متعدّد الأوجه؟”. وهو واقع قد يتكرّر مع القاضي بيطار لأكثر من سبب، بما في ذلك كسره المحرّمات.
ثمّة قاعدة في السلك القضائي مفادها: “قرارات القاضي ومضمونها وصحّتها هي التي تحميه”. في حالة القاضي صوّان لم يتّخذ مجلس القضاء الأعلى دور الطرف.
وسُجّل في هذا السياق صدور أربعة بيانات عن القاضي صوّان عبر المكتب الإعلامي لمجلس القضاء الأعلى، الذي شكّل منبرًا للمحقّق العدلي. وقد أتت هذه البيانات في سياق التوضيح وعرض مراحل التحقيق، بما في ذلك ردّ التهم بالتلكوء والتقصير.
ويؤكّد مطلعون أنّ “هذا الأمر سيتكرّر مع القاضي بيطار وبوتيرة أكبر تأمينًا للشفافية. وهذه البيانات تصدر عن المحقّق العدلي، لكن عبر مجلس القضاء الأعلى الذي لا يتدخّل إطلاقًا بمضمون التحقيق”.
تقول مصادر قضائية رفيعة في هذا السياق: “طَلَبَ مجلس القضاء الأعلى فقط أن يكون التحقيق شفّافًا ومن دون خطوط حمر. وليس بوسعه أن يطلب أكثر من ذلك. مجلس القضاء ليس فريقًا بل يشكّل مظلّة ودعمًا معنويًّا للقاضي”
وتشير مصادر قضائية إلى أنّ “رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود اعتمد الحياد المطلق حيال الملفّ، تكريسًا لاستقلالية القضاء”، نافية “حصول اجتماعات تنسيقية مع القاضي صوّان، فهو الطرف الذي سيحكم بالنهاية وسينظر بالقرار، كونه رئيس المجلس العدلي. وأيّ موقف أو خطوة يتّخذها سيكون لها تداعياتها في مراحل المحاكمة”.
تضيف المصادر: “حتّى قرار محكمة التمييز بتنحية القاضي صوّان، تبلّغه مجلس القضاء الأعلى وفق الأطر القانونية، ولم يكن لديه أيّ فكرة مسبّقة عن فحواه”.
إقرأ أيضاً: من هو “الفدائي” الذي سيخلف القاضي صوّان بعد تنحيته؟
وفيما يعكف القاضي بيطار على دراسة الملفّ، استقبل أمس ممثلين عن لجنة أهالي ضحايا المرفأ، الذين نقلوا عنه أنّ “إدارة التحقيق ستكون مختلفة خصوصًا لناحية إطلاع الرأي العام أكثر على مراحل التحقيق”، وبأنّه يحتاج لأسبوعين “لدراسة كامل الملف وسأصِل الليل بالنهار”. وقد وَعَده أهالي الضحايا بمنحة “ثلاثة أسابيع قبل اتّخاذ أيّ موقف من التحقيق”.
المحقّق العدلي صاحب الصلاحيات الواسعة جدًّا لا يستطيع “شطب” مسار كامل من التحقيق، تحديدًا لجهة لائحة الادعاءات والموقوفين. وهنا تتوقع مصادر قضائية أن “تُثار دفوع شكلية من قبل مُدّعَى عليهم، وقد يأخذ بها بحسب تقديره”.
وفق المعلومات كذلك، قد يعاون القاضي بيطار قضاة متدرّجون، كما استعان صوّان بقاضيَيْن متدرّجَيْن. ومعروف عن القاضي بيطار سرّعة البتّ بالملفّات خلال رئاسته لمحكمة جنايات بيروت… لكن لم يُعرف حتّى الآن ما إذا كان سيلامس السقف الذي بلغه صوّان وكلّفه صدور قرار بتنحيته عبر “تخطّيه كل الحصانات”.