سُجن سمير جعجع ونُفِي ميشال عون في عقد التسعينات، لكن لسبب لا يُمحّص كثيراً، بقي تلفزيون “إل بي سي” يعبر عن نبض مسيحي اعتراضي، حتى بعد إغلاق كل التلفزيونات الخارجة عن منظومة السلطة.
كان للوصاية السورية مصلحة في وجود صوتٍ يكرر على مسامع المسيحيين كل يوم إن رفيق الحريري لديه أجندة واحدة هي الهيمنة على الحصة المسيحية في الحكم. دخل سليمان فرنجية مساهماً لضمان السقف السياسي للمحطة، وتُرك لها التخويف من الحريري، وتصويره امتداداً لألف وأربعمئة سنة من المخاطر الوجودية على الوجود المسيحي في جبال لبنان.
أخذ ذلك التوجيه أشكالاً رمزية في مجالات متعددة، منها مثلاً التنافس بين الحكمة والرياضي في كرة السلة، والضجيج حول تسمية مدينة كميل شمعون الرياضية بعد إنجاز إعادة بنائها عام 2000. وغّذت تلك الهواجس أساطير غير معروفة المنشأ، من نوع أن الحريري تملّك قصراً في فقرا ليؤسلم الأرض هناك وينزع الصليب من قمة الجبل، أو أنه حرص على رفع بنيان مسجد ليغطي على كنيسة مجاورة، أو أنه بنى مجمع كفرفالوس لا لشيء إلا ليهجّر المسيحيين من شرق صيدا.
ارتاح السوري لوجود “عدو” آخر سواه في نظر شريحة لا يستهان بها من المسيحيين. وكان هناك في باريس من يقول للمسيحيين إن سبب إحباطهم وتهميشهم ليس إلا الطائف الذي صنعه رفيق الحريري، وليس الانقلاب السوري على الاتفاق.
كان للوصاية السورية مصلحة في وجود صوتٍ يكرر على مسامع المسيحيين كل يوم إن رفيق الحريري لديه أجندة واحدة هي الهيمنة على الحصة المسيحية في الحكم
لم تتغير تلك المعادلة إلا باستشهاد الحريري وتلاقي الساحات. لفترة وجيزة فقط، بدا أن الرأي العام المسيحي يمكن أن يرى في رفيق الحريري بانياً لوسط بيروت الجامع للبنانيين بلا فرز أو عد، إلى أن عاد ميشال عون إلى البلاد بصفقة مع المحور السوري- الإيراني. منذ لحظة عودته وجّه الحميّة المسيحية لاستعادة الدور في وجه الحالة السياسية السنيّة. قال للمسيحيين بصريح الموقف إن من أخرجهم من الدولة ليس السوري، ولا حلفاؤه من الشيعة، بل الحريرية حصراً.
وكان لـ “حزب الله” مصلحة في احتدام هذه المماحكة على المناصب والحصص، طالما أنه يغيّب النقاش في عمق السياسة؛ في شأن موقع لبنان وعلاقاته الخارجية وهويته والسيادة والسلاح.
كان هذا عنوان أحد عشر عاماً من المماحكة والتعطيل إلى أن دخل ميشال عون قصر الرئاسة.
من الآن وحتى نهاية عهد الرئيس عون بعد عشرين شهراً، تخوض العونيّة مخاض الوراثة وانتقال المشروع والمشروعية من المؤسس إلى الصهر. هذا الانشغال، ولا شيء سواه، سيكون عنوان الاستحقاقات الانتخابية الثلاثة في 2022، البلدية والنيابية والرئاسية.
ويصدف أن تأتي هذه الاستحقاقات وسط أسوأ أزمة مالية واقتصادية في تاريخ البلاد، فيما شعبية ولي العهد لا تبدو على ما يُرام، لأسباب أهمها سجله غير المشجع في الملفات التي تولاها بنفسه، لا سيما الكهرباء واستكشاف الغاز والسدود.
لا يمكن تحقيق انتقال سلس للزعامة وتجاوز الندوب التي لحقت بصورة العهد، وبصورة باسيل شخصياً، من دون معركة تستنهض الوجدان المسيحي وتغطي على أصوات الانتقاد المسيحي من خارج التيار العوني والتشقق داخله. تلك المعركة ليس من طرف مقابل يصلح لها سوى الحالة السياسية السنية، وبدرجة أقل الدرزية. يجب أن يشعر المسيحي بأن هناك من يريد أن يعيده إلى إحباط التسعينات.
كان لـ “حزب الله” مصلحة في احتدام هذه المماحكة على المناصب والحصص، طالما أنه يغيّب النقاش في عمق السياسة؛ في شأن موقع لبنان وعلاقاته الخارجية وهويته والسيادة والسلاح
ليس من قبيل الصدفة أن يُنبَش كل أرشيف الأساطير ضد الحريرية الآن. يفيض تويتر بالحنق على تسمية المطار باسم رفيق الحريري، وبحكايا صليب فقرا وأسلمة الأرض و”إعادة المسيحيين إلى ما قبل 2005″، كما لو أن رفيق الحريري كان هو الوصي على الحكم، وليس النظام الأمني السوري اللبناني، من بشار الأسد وشقيقه ماهر في دمشق إلى إميل لحود وجميل السيد في بيروت.
إقرأ أيضاً: مخيف ما فعله العقل “العوني” بلبنان
في المقابل، لا يبدو وريث الحريرية رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري في موقع يسمح له بتغيير قواعد الاشتباك. فمن جهة، هو لا يستطيع أن يشتري السعير الطائفي بمزيد من التنازلات وتجرّع السم. ومن جهة أخرى، هو نفسه في حاجة إلى شد عصب جمهوره قبل سنة الاستحقاقات.
عشرون شهراً مصيرية تتهيأ فيها كل الأسباب للحركة العونية لإذكاء السعير الطائفي. هي تحتاجه كما يحتاجه “حزب الله”، لتبقى البلاد خارج السياسة وفي قلب التفاهة والمماحكة بمستوى زياد أسود. صفقة تفاهم مارمخايل قابلة للترميم: يخرج المسيحيون من القرار بشأن السياسة الخارجية والدفاعية وهوية لبنان، ويُترك لهم التلهي بالنزاع مع السنة على المناصب وفتات الدولة المنهارة.