7 أيّار طرابلسي: لماذا حيّد الجيش نفسه؟

مدة القراءة 6 د

هي ليلة إحراق طرابلس والتواطؤ على أمنها واستقرارها وسقوط الأجهزة الأمنية وانكشاف عوراتها. وهي أيضاً ليلة استباحة مؤسساتها وإسقاط الدولة وإعلان الفوضى وشريعة الغاب، في مدينة لا تزال تدفع أثمان تمسّكها بالدولة وترفض منطق الأمن الذاتي، بينما تدفعها المنظومة الحاكمة بكلّ الوسائل والطرق إلى الكفر بالدولة والوطن والانتماء، في مشهد ينبئ بما ستحمله الأيام المقبلة من كوارث بعد أن أصبحنا في قلب “جهنّم” اللبنانية التي بشّرنا بها ميشال عون.

هذه هي خلاصة الموقف بعد انقضاء ليلة “الخميس الأسود” في 18 تشرين الثاني 2021، والتي انجلت عن إحراق المحكمة الشرعية السنية في سرايا طرابلس وإحراق مبنى البلدية والاعتداء على أملاك المواطنين في غزوة بربرية جديدة تشهدها المدينة بعد غزوات إحراق المصارف والمخافر خلال الأشهر الماضية.

تمتّع غزاة طرابلس بتنظيم عالٍ وفّرته لهم غرفة عمليات أدارت حركتهم، وامتلكوا غطاءً أمنياً وأسلحة نارية أطلقوا منها الرصاص على الجيش خلال ساعات الاحتدام، كما حملوا معهم موادّاً حارقة بمواصفات كيماوية شديدة الاشتعال أحالت مبنى المحكمة الشرعية، وبشكل أكبر مبنى البلدية ومحتوياتهما، إلى رماد. وكانوا يتحرّكون بشكل منسق، بحيث تمكّن قسم منهم من منع سيارات الإطفاء من الوصول إلى مبنى البلدية، بينما قام قسم آخر بعمليات الإحراق.

خرج قسم كبير من المخرّبين من محلة العيرونية التي تشهد التحاقاً واسعاً بما يسمى “سرايا المقاومة” بألوانها “الدينية” و”العلمانية”، في وقت أجمع الخبراء على أنّ هؤلاء كانوا من خارج المدينة وغير معروفين لدى المنخرطين في تجمعات ثورة 17 تشرين.

تمتّع غزاة طرابلس بتنظيم عالٍ وفّرته لهم غرفة عمليات أدارت حركتهم، وامتلكوا غطاءً أمنياً وأسلحة نارية أطلقوا منها الرصاص على الجيش خلال ساعات الاحتدام

الثابت والأكيد في كلّ ما جرى هو فشل الأجهزة الأمنية في القيام بواجباتها بحماية المواطنين والأملاك العامة والخاصة، وتحديداً مؤسسات الدولة، وهي المهمّة التي تبرّر القوى الأمنية وجودها وتصرف على أساسها نفوذها، قبل تطبيق القانون.

الواضح أنّ القوى الأمنية المكلفة أساساً بحماية المباني العامة أصابها الوهن وفقدت القدرة على المبادرة، وقد احتاجت مساندة الجيش اللبناني الذي كان بدوره في وضعية “الإفادة” عن الوقائع وليس في حالة التدخل لوقف التخريب المتمادي لمؤسسات الدولة.

على مدى أربع ساعات، اكتفت قوى الأمن الداخلي بوقوف عناصرها على سطح سرايا طرابلس ورمي المهاجمين بالحجارة، تاركة أسوارها نهب الجموع التي اقتلعت السور الحديدي وتمكنت من استهداف مبنى المحكمة الشرعية السنية، بما تحمله من رمزية وأهمية.

وعلى مدى أربع ساعات ايضاً، تمركزت أربع ملالات للجيش وعدد من السيارات العسكرية قرب مبنى “الكونكس” على مرمى حجر من السرايا من دون أن تحرّك ساكناً، في موقف لا يمكن فهمه ولا قبوله إطلاقاً.

ترَك الجيش وقوى الأمن “الغزاة” يغادرون ساحة النور من دون أن يوقفوا منهم أحداً، رغم جريمة إحراق المحكمة الشرعية، ورغم رؤيتهم وهم يحطّمون كل ما وجدوه أمامهم، حتى وصلوا إلى مبنى البلدية، حيث كانت تتواجد قوة من الجيش، فاجتاحوه وأحرقوه وقاموا بسلب المعدات آخذين كامل وقتهم، ليكملوا مسارهم نحو جامعة العزم مقتحمين ومخرّبين. وقد اكتفى الجيش بفرض طوق على مبنى البلدية المحترق، بعد أن منعت عصابات التخريب سيارات الإطفاء من الوصول إلى المبنى.

وقد أعلن الجيش عن توقيف 5 أشخاص (4 لبنانيين وسوري) شاركوا بأعمال الشغب ثلاثة منهم شاركوا بعلميات الحرق في البلدية وأحدهم منع فرق الاطفاء من القيام بعملها، وهي حصيلة هزيلة بمفعول رجعي نظراً لتورّط أكثر من 400 شخص في جرائم الإحراق. وهؤلاء ارتكبوا “جرماً مشهوداً”، وكانوا مكشوفي الوجوه هذه المرة، ولم يظهر عليهم أيّ خوف من إمكانية ملاحقتهم من الأجهزة الأمنية، بل أكملوا “غزوتهم” وعادوا إلى قواعدهم “سالمين غانمين”.

كيف يمكن فهم هذا السلوك اللاأمني من قبل أجهزة الأمن؟ وما هو مبرّر استمرار وجودها في طرابلس أو في أيّ مدينة أخرى إذا كانت عاجزة عن حماية الناس وممتلكاتهم، وغير قادرة على حماية مباني الدولة؟

على مدى أربع ساعات ايضاً، تمركزت أربع ملالات للجيش وعدد من السيارات العسكرية قرب مبنى “الكونكس” على مرمى حجر من السرايا من دون أن تحرّك ساكناً، في موقف لا يمكن فهمه ولا قبوله إطلاقاً

كيف يمكن فهم الحماية النموذجية التي تقدّمها الأجهزة الأمنية أمام منازل المسؤولين وعجزها عن حماية مؤسسات الدولة؟ وكيف يمكن تفسير عدم توقيف المخربين؟ وفي الوقت نفسه كيف يمكن الموازنة بين عدم توقيف هؤلاء وبين قدرتها على القمع، وصولاً إلى القتل، بوجه المتظاهرين السلميين؟ وكيف يمكن إقناع المواطنين بأنّهم في مأمن في بيوتهم ومنعهم من الذهاب نحو الأمن الذاتي؟ وما الذي يمنع هؤلاء الغوغاء من اقتحام المنازل وإحراقها وقتل أهلها؟

أصحابُ الرتب الأمنية الرفيعة والنجوم المعلّقة على الأكتاف في طرابلس هم المسؤولون في المقام الأوّل: قائد منطقة الشمال العسكرية العميد الركن غازي عامر، ورئيس فرع مخابرات الشمال العميد نزيه البقاعي، وقائد منطقة الشمال في قوى الأمن الداخلي العميد يوسف درويش، ورئيس شعبة المعلومات في طرابلس العقيد محمد العرب، ورئيس فرع أمن الدولة العقيد فادي خالد ورئيس شعبة الأمن العام المقدّم باسل الحركة، مع الفارق النسبي في الصلاحيات والمهمات.

إقرأ أيضاً: كيف “بلغصَ” باسيل في أحداث طرابلس ليل الأربعاء؟

وقبل كلّ هؤلاء فإنّ قائد الجيش العماد جوزاف عون ومدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان مطالبان أمام أبناء طرابلس وسائر اللبنانيين بمحاسبة المقصّرين والمتواطئين، والكشف عما إذا كان تحييد الجيش وتقييد حركة قوى الأمن جاء بقرار منهما أم أنّ هؤلاء الضباط تصرّفوا من تلقاء أنفسهم؟

لقد كنّا ليلة “الخميس الأسود” أمام “7 أيّار” طرابلسي، وكانت أطياف زوبعة الحزب القومي و”سرايا المقاومة” هي الحاضر الأكبر، فهل ما جرى كان يشبه ما فعله قائد الجيش الأسبق في 7 أيّار 2008 من تحييد للجيش وتخلٍّ عن مسؤولية حماية اللبنانيين؟ أم أنّنا أمام سيناريو جديد لم تنكشف معالمه بعد؟

المطلوب محاسبة المتواطئين والفاشلين في تطبيق القانون، وملاحقة المجرمين المعروفين، لا أن ينضمّوا إلى حارقي المصارف في النجاة من العقاب. هذا إذا لم يكونوا هم أنفسهم من يستمرون في إحراق المدينة.. ولا يتهرّبنّ أحدٌ من المسؤولية ولا يسخفنّ أحدٌ ما جرى بأنّه “غضب فقراء مبرّر”، فقد كان الفقراء الشرفاء أوائل المستنكرين لهذه الجرائم والرافضين لها.

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…