قبل 152 عامًا رفضِ الرئيس السّابق أندرو جونسون حضور تنصيب خليفته يوليسيس غرانت، ومشاركة العربَة معه للتوجّه إلى مبنى الكابيتول، مُفضّلًا البقاء في البيت الأبيض.
كانت تلك المرّة الأخيرة التي يُقاطع رئيس أميركي تنصيب خليفته قبل أن يُقرر الرئيس السابق دونالد ترامب هذه المرّة مُغادرة المقرّ الرّئاسي تاركًا للرئيس الجديد رسالة “ودّية”، متوجّهًا بصحبة زوجته “ميلانيا” نحو قاعدة أندروز الجوية الواقعة في ولاية ماريلاند على بعد 24 كلم عن وسط العاصمة واشنطن ليلتقي بحشدٍ من أنصاره عوضًا عن الوقوف إلى جانب “جو النّعسان” – كما يُسمّي ترامب بايدن – في حفل تنصيبه رئيسًا للبلاد.
مُستعرضًا إنجازات عصره، كان ترامب واثقًا أنّ الإدارة الجديدة بقيادة جو بايدن ستُحقق الكثير من الإنجازات، ليس ثقةً بفريقه بل لأنّه ترك لها “أرضيّة لتحقيق إنجازات استثنائيّة” على حدّ قول الرّئيس الأسبق. وعلى وقع 21 طلقة مدفعيّة أطلقتها القوات المُسلّحة تكريمًا للرئيس المُغادر، بشّر ترامب أنّه سيعود “بطريقة أو بأخرى”.
يبدو أنّ مسلسل “ترامب – العودة” سيكون على هيئة حزبٍ جديد يُطلق عليه اسم “الحزب الوطني” (Patriot Party)، بحسب ما ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال”. وتأتي هذه الخطوة بعد تدهور العلاقة بين ترامب وبين عدد من قادة الحزب الجمهوري، وفي مُقدّمتهم زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، الذي قال في وقتٍ سابق إنّ “ترامب “يستحق” اللوم في تحريض مؤيديه لاقتحام مبنى الكابيتول في 6 كانون الثّاني”. كما تظهر استطلاعات الرّأي دعمًا قويًا للرئيس الأسبق في أوساط الناخبين الجمهوريين.
إن صحّت المعلومات عن نيّة ترامب، فذلك يعني أنّ الرّجل قرّر مواجهة “المناصفة” التاريخيّة في الولايات المُتحدة بين الجمهوريين والدّيمقراطيين، وبالتّالي مقارعة “الفيل” و”الحمار” لفرض واقعٍ سياسيّ جديد تكون “الترامبيّة” الصّاعدة عنوانه، مؤسّساً لـ”مثالثة” قد تغيّر وجه التاريخ الأميركي. وكان ترامب فشل سابقًا في محاولات تأسيس حزب ثالث (حزب الإصلاح الأميركي) وفي تأمين الدعم الكافي كي يلعب دورًا محوريًا في الانتخابات الأميركيّة عام 2000. وتوقّع تقرير “وول ستريت جورنال” أن يعترض المسؤولون الجمهوريّون بشدّة على فكرة قيام ترامب بـ”خطف” أصوات الجمهوريين.
يبدو أنّ مسلسل “ترامب – العودة” سيكون على هيئة حزبٍ جديد يُطلق عليه اسم “الحزب الوطني” (Patriot Party)، بحسب ما ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال”
وفي وقت كان ترامب يُغادرُ البيت الأبيض، كان الرّئيس المُنتخب جو بايدن يقف على شرفات مبنى الكابيتول الذي اقتحمه مناصرو الأوّل قبل أسابيع قليلة، ليؤدّي اليمين الدّستوريّة كرئيسٍ جديدٍ للبلاد، إلى جانب زوجته، ومُحاطًا بالرؤساء السّابقين والمسؤولين الأميركيين وأعضاء إدارته. أقسم بايدن يمينه، بعد أن أدّت المُغنيّة الأميركية اللاتينيّة الأصل جينيفر لوبيز أغنيّة (This Land Is Your Land) وقبلها النّجمة ذات الأصول الإيطاليّة Lady Gaga قدّمت “النّشيد الوطني الأميركي” الذي سبق أداء نائبة الرّئيس كاميلا هاريس، ذات الأصول الجامايكيّة والهنديّة، اليمين الدّستوريّة.
كما خطفت أماندا غورمان، بردائها الأصفر وشعرها المطوّق بتاج أحمر، الأضواء خلال حفل التنصيب. إذ ألقت الشّابة من أصول أفريقية قصيدةً من تأليفها دعت الأميركيين إلى “الوحدة”. فأسرت بكلماتها الحاضرين على أدراج الكابيتول والمشاهدين خلف الشاشات. غورمان ابنة الـ22 عامًا التي اقترحت السيدة الأولى الجديدة جيل بايدن اسمها على منظمي الحفل، ألقت من على منصّة التنصيب قصيدة بعنوان “The Hill we Climb” (التلّ الذي نتسلّقه)، في إشارة إلى مبنى “الكابيتول هيل”، الذي اقتحمه حشد من أنصار ترامب.
أراد منظّمو حفل التنصيب بهذه الخطوات أن يُؤَكّدوا على دور المهاجرين، على اختلاف أصولهم، في بناء الولايات المُتحدة والتصويب على مناصري “تفوّق العرق الأبيض” والعنصريّة التي قسمت البلاد عاموديًا خلال الأعوام الـ4 الأخيرة.
ومع “غفوة الرئيس السّابق بيل كلينتون”، الذي غلبه النّعاس أمام مئات الملايين ممن كانوا يشاهدون حفل التنصيب عبر شاشات التلفزة، بدأ بايدن كلمته متوعّدًا بإلحاق الهزيمة بنزعة الاعتقاد بتفوّق العرق الأبيض و”الإرهاب الدّاخلي”. ولمدّة 21 دقيقة من الزّمن، دعا بايدن الأميركيين إلى التمسّك بالوحدة، داعيًا إيّاهم إلى وضع خلافاتهم جانبًا لمواجهة “الشتاء القاتم” الذي تفرضه جائحة COVID-19.
ومع انتهاء الكلمة، طُلِبَ من الحضور البقاء في أماكنهم لمغادرة الرّئيس نحو البيت الأبيض، الّذي ما إن وَصَلَ إلى مكتبه، حتّى وقّع 15 أمرًا تنفيذيًا مُعلنًا بها “انتهاء حقبة ترامب”. جُلّ التواقيع التي أرساها بايدن كانت إلغاءً لقرارات اتّخذها سلفه، أبرزها العودة عن الانسحاب من مُنظّمة الصّحة العالميّة، التي بدَأ مُستشاره العِلمي ومدير المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية أنتوني فاوتشي بحضور اجتماعاتها. كما وقّع أمرًا بتشديد الإجراءات الخاصة بفيروس كورونا، مثل الالتزام بارتداء الكمامات والتباعد الاجتماعي وكافة الإجراءات التي تحدّدها السلطات الأميركيّة.
لم تقتصر عمليّة إلغاء قرارات ترامب على منظّمة الصّحة، بل إنّ بايدن وقّع مرسوم العودة إلى اتفاقيّة “باريس للمناخ”، التي اختار “عرّابها” ووزير الخارجيّة السّابق جون كيري كمستشارٍ لشؤون المناخ. ليقول بعدها بايدن للصحافيين في البيت الأبيض: “سنكافح التغيّر المناخي كما لم نفعل هنا من قبل”. كما وقّع مرسومًا ينصّ على رفع قيود السفر التي فرضتها إدارة ترامب على بعض الدول ذات الأغلبية المسلمة.
أراد منظّمو حفل التنصيب بهذه الخطوات أن يُؤَكّدوا على دور المهاجرين، على اختلاف أصولهم، في بناء الولايات المُتحدة والتصويب على مناصري “تفوّق العرق الأبيض” والعنصريّة التي قسمت البلاد عاموديًا خلال الأعوام الـ4 الأخيرة
لم ينسَ بايدن “جدار الفصل” مع المكسيك، الذي كان في صلب وعود ترامب الانتخابيّة عام 2016، إذ وقّع أمرًا بتعليق تنفيذه بعد أن كان البنتاغون قد رصد لبنائه مبلغ 3 مليار دولار بناءً على طلب سلفه ترامب.
بعد الرسائل الإيجابيّة إلى جارته الجنوبيّة المكسيك، قرّر بايدن أن يكون أوّل اتصال خارجيّ يقوم به هو بجاره الشّمالي رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو اليوم الجُمعة. تخصيص كندا بأوّل اتصال للرئيس الجديد يأتي بعد تعقيدات وفتور في العلاقة بسبب السّياسة الخارجيّة لترامب الذي وصَف ترودو يومًا بـ”ذي الوجهين” داعيًا إيّاه إلى تسديد 2% من الناتج القومي للدفاع لفائدة حلف الناتو قائلًا: ” هو لا يدفع 2% ويجب عليه أن يدفعها. لديهم الكثير من المال في كندا”.
إقرأ أيضاً: مَن يرث ترامب مرشحاً رئاسياً للحزب الجمهوري؟
دخَلَ بايدِن البيت الأبيض رسميًا، والعالم بأسره يترقّب ما سيقوم به على جميع الصّعد، بعد خروج الولايات المتحدة من حقبة “غريبة عجيبة” بقيادة ترامب. يطمح الرئيس المُنتخب لأن يطوي صفحة “الرئيس الاستثنائي” إلى غير رجعة، وكان هذا واضحًا بتوقيعاته. ويبدو أنّ ترامب لم يقرّر حتّى السّاعة التقاعد، رغم كل ما واجهه وسيواجهه بفعل أحداث الكابيتول.
وفي عودة إلى التاريخ، رُبّما ينطبق في هذه الحالة ما قاله الرئيس المصري الراحل أنور السّادات بلهجته القروية بعد أن ضاق ذرعًا من الزعيم الليبي الرّاحل معمّر القذافي: “الواد المجنون بتاع ليبيا مُش راضي يبطّل جنان”.