أمس، عاد بنا الزمن قرابة سنة إلى الخلف. تحديداً إلى مطلع شهر نيسان 2020، يوم انتشرت تسريبات عن تحويلات مصرفية أجراها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى الخارج في العام 2014. يومها أطلّ سلامة وأكد أنّ المعلومات مفبركة، واضعاً إيّاها في إطار حرب تُخاض ضده من “جهات معروفة”. الأمر نفسه تكرر أمس الثلاثاء بصيغة شبه متطابقة وللسبب نفسه مع تفاصيل إضافية إنّما قضائية وسويسرية، لكن مع فارق بين النسخة اللبنانية وبين تلك السويسرية.
صحيفة “الأخبار” نقلت في عددها الصادر، أمس الاثنين، عن تبلّغ لبنان رسمياً طلباً من جهات أوروبية وسويسرية لتقديم مساعدة قضائية في تحقيق جار حول ملف تحويلات مالية “تخصّ رياض سلامة وشقيقه رجا ومساعدته ماريان الحويّك”. السياق نفسه سلكته وزيرة العدل في حكومة تصريف الأعمال ماري كلود نجم، التي أعلنت عن تسلّمها طلب تعاونٍ من السلطات القضائية في سويسرا، يخصّ حاكم مصرف لبنان. إلا أنّ مكتب المدعي العام السويسري كشف من خلال بريد إلكتروني في ردّ على سؤال لوكالة “رويترز” أنّ طلبه مرتبط بـ”تحقيق في غسل أموال واختلاس محتمل مرتبط بمصرف لبنان” وليس برياض سلامة أو بأحد من أقربائه. لكنّ جوقة الماضي نفسها، ومن دون أي تمييز، عادت إلى النبش في ملفاتٍ عفّ عنها الزمن، ووصل الأمر بالبعض إلى حدّ الإعلان عن “تجميد حسابات” رياض سلامة في سويسرا!
إذاً، الفصل بين الشخص والمنصب ضائع في لبنان. ربما شخصية سلامة وسلوكه وبقاؤه هذه السنوات الطويلة على رأس حاكمية مصرف لبنان هو المشكلة بذاتها، التي جعلت التمييز بين الأمور الثلاثة صعباً إلى هذا الحدّ، فبات الفصل بين ثالوث “مصرف لبنان” و”حاكم مصرف لبنان” و”شخص رياض سلامة” أشبه بالمهمة المستحيلة، كما باتت هذه الأسباب مجتمعة، البوابة الرئيسية لأيّ عملية إطلاق نيران تُصيب المصرف المركزي في حال كان المستهدف سلامة نفسه… والعكس صحيح.
صحيفة “الأخبار” نقلت في عددها الصادر، أمس الاثنين، عن تبلّغ لبنان رسمياً طلباً من جهات أوروبية وسويسرية لتقديم مساعدة قضائية في تحقيق جار حول ملف تحويلات مالية “تخصّ رياض سلامة وشقيقه رجا ومساعدته ماريان الحويّك”
المصادر المصرفية توقّفت كثيراً عند التصريح الذي صدر من مكتب المدعي العام السويسري أمس لـ”رويترز” أيضاً، ووضعته في إطار توجيه “ضربة معنوية كبيرة وإضافية لسُمعة ومصداقية المصرف المركزي الخارجية”، المهشمة أصلاً، خصوصاً حينما يتحدث الطلب عن التحقيق في “قضايا غسل أموال واختلاس محتمل”، بمعزل إن صحّت هذه الشبهات أو ظهر لاحقاً أنها غير صحيحة، فإنّ “الطامة كبرى” و”الحجر كبير”.
لا بد هنا من الإشارة إلى أنّ جواب حاكم مصرف لبنان على الاستدعاء لم يكن دقيقاً لا في القانون ولا في العلم. إذ أنّ المدّعي العام السويسري يتحدّث عن قضية محددّة قضائياً وبالتالي الجواب يكون على قدر الاتهام أولاً وليس على ما نشر في الإعلام.
أمر آخر استرعى انتباه الخبراء المصرفيين، ويتعلّق بالآلية التي اتبعتها سويسرا لتبليغ الجهات اللبنانية، وأثارت جدلاً يخصّ قانونيتها. إلاّ أنّ مصادر مطلعة على آليات العمل في التحقيقات المشابهة أكّدت لـ”أساس” أن المتعارف عليه لناحية التعاون في قضايا الشبهات بتبييض الأموال أو الاختلاسات، يسلك طريقاً من اثنين:
الأولى من خلال وزارتي الخارجية في البلدين، اللتين تخاطب كلّ منها وزارة العدل في بلدها وهي الطريقة التي حصلت أمس، والتي يصفها المصدر بـ”الطريق الأكثر دبلوماسية” أو “الأسلم”. ومن ضمن الطريقة الأولى أيضاً يحصل أن تخاطب وزارتا العدل بعضهما مباشرة.
أما الطريقة الثانية، فتتم من خلال “وحدة التحقيق المالي” في كل دولة، التي تسمى The Financial Intelligence Unit وتُعرف في لبنان باسم “هيئة التحقيق الخاصة”. وظيفة هذه الوحدات مراقبة التحركات المالية، كما أنها موجودة في كل دول العالم، وهي منفصلة نهائياً عن المصارف المركزية وعن حكامها (هكذا يُفترض) لأنّ وظيفتها التدقيق في الجرائم المالية وغسل الأموال وتهريبها (تجارة المخدرات، الإتجار بالبشر، التهرب الضريبي، الإرهاب…) فيما وظيفة المصارف المركزية صون الاستقرار المالي والنقدي.
المصادر المصرفية توقّفت كثيراً عند التصريح الذي صدر من مكتب المدعي العام السويسري أمس لـ”رويترز” أيضاً، ووضعته في إطار توجيه “ضربة معنوية كبيرة وإضافية لسُمعة ومصداقية المصرف المركزي الخارجية”
هذه الهيئات تتخاطب في ما بينها وترفع طلباتها لبعضها البعض ثم للمصارف، التي تمدّ الهيئة في البلد المعني بالمعلومات، ليُرفع الأمر إلى السلطات القضائية في البلد نفسه من أجل: رفع السرية المصرفية وتنفيذ الحجز… أو خلافه.
وبما أنّ هذه الهيئة في لبنان غير مستقلة وعلى “تماس” تامّ مع مصرف لبنان وتذوب وتتماهى مع حاكميته، بخلاف أغلب الهيئات في دول العالم، ارتأت سويسرا، على الأرجح، أن تلجأ إلى الطريقة الأولى، خصوصاً أنّ الشبهات تخصّ مصرف لبنان وأنّ التمييز بين شخص الحاكم والمصرف المركزي وبالتالي بين الهيئة، يكاد أن يكون شبه مستحيل.
وربطاً بكل ما سبق، يبدو أنّ طلب المساعدة السويسري متعلق بالاستفسار عن تحويلات تخصّ المصرف المركزي، انفرد الحاكم بإجرائها يوم كان المجلس شاغراً من نواب الحاكم والمراكز الأخرى.
إذاً، هي شبهات على علاقة وثيقة بمن يُصنّفون ضمن صفة الأشخاص المعرّضون سياسياً Politically Exposed Persons (PEPs) الذين تمنعهم القوانين من استغلال السلطة للإثراء غير المشروع. وهنا تُميّز المصارف بدقة بين المودعين العاديين وبين أولئك المسمون الـPEPs، وذلك ربطاً بعامل أساسي يخصّ “نظافة الأموال وشرعيتها”.
يبدو أنّ طلب المساعدة السويسري متعلق بالاستفسار عن تحويلات تخصّ المصرف المركزي، انفرد الحاكم بإجرائها يوم كان المجلس شاغراً من نواب الحاكم والمراكز الأخرى
فأي مودع عاديّ له الحق بتحويل الأموال، شرط أن تكون هذه الاموال نظيفة وشرعية ولم يحصل عليها الشخص المعني بأساليب ملتوية أو من خلال استغلال السلطة السياسية. وهذا الأمر ينطبق على “المُعرّضين سياسياً” أيضاً، طالما أنّ مصدر الأموال نظيف ولا شبهات فسادٍ أو إرهابٍ أو غسيل أموال تحوم حولها.
تؤكّد المصادر أنّ هذا التمييز بين الحالات الثلاث هو لبّ المشكلة لدى وسائل الإعلام في لبنان، التي يختلط عليها شأن “المعرّضين سياسياً”، فتضيع “الطاسة” بين تهمة “الأموال المهرّبة” وبين تلك “المُحوّلة شرعياً”، خصوصاً أنّه حتى تاريخه لا يوجد ما يقيّد حركة تحاويل الأموال إلى الخارج من خلال قانون Capital Control، إن للأشخاص العاديين أو للمعرّضين سياسياً على حدّ سواء.
وعليه، فإن كان مصدر الوديعة نظيفاً، فلا مشكلة في تحويل الأموال للطرفين.
إقرأ أيضاً: “لوموند” الفرنسية: مصرف لبنان “دولة داخل الدولة”، ممنوع اللمس أو الاقتراب
هذا كان في الشق التقني. أما في الشق الإعلامي والسياسي، فتلفت المصادر إلى أنّ الملف هو ذاك الملف القديم المفبرك نفسه، الذي ثمة من يحاول إحياءه بأيّ طريقة، من خلال إضفاء “الصبغة الدَولية” عليه ليكسب المزيد من المصداقية، واضعة ما حصل في اليومين السابقين في إطار ضرب آخر مؤسستين لبنانيتين عاملتين وصامدتين في وجه “المدّ الإيراني”، وهما مؤسسة الجيش ومصرف لبنان… فيما البديل عنهما جاهز.
هذا المنطق قد يكون صحيحاً على ضعفه البنيوي، لكنّ السؤال الذي يُطرح: هل الناس قادرة على تقبّله وهي ترى ودائعها محجوزة في المصارف أو مهرّبة عبر الحدود على شكل صهاريج؟ قطعاً لا.
لا فرق إن اتهمنا المصرف المركزي أو اتهمنا رياض سلامة، فالأمر سيّان، والأمران ينطبق عليهما اليوم ما قاله المتنبي في الماضي: فيكَ الخصامُ وأنتَ الخصمُ والحكمُ.