ليس سهلاً أن يُطلب منك الذهاب إلى مستشفى رفيق الحريري الحكومي لإجراء مقابلة في أحد مكاتبها. أوّل ما فكّرت به هو الإجراءات الوقائية التي عليّ أن أتّخذها منذ دخولي وحتّى خروجي، وصولاً إلى التزامي بالحجر المنزلي بعدها.
منذ اللحظة الأولى التي حدّد فيها موعد المقابلة، وأنا أفكر بالكمامة والكفوف وسائر الإجراءات، وبعودتي إلى المنزل وابتعادي عن الجميع خوفاً من أن ألتقط الفيروس الذي أرهبنا جميعاً، فأًصاب به وربما أُصيب آخرين. في وقت ما زال اللقاح المنتظر موضع الآمال والتخبط في آن معاً. فمن سيأخذه بداية؟ ومتى سيأتي دوري أو دور من أخشى عليهم من المرض؟
من حسن الحظّ أن تزامن موعد المقابلة التي كنت أحضّر لها منذ ما قبل رأس السنة مع قرار الإقفال التام وحظر التجوّل. فهي فرصة لألتزم الحجر دون ضرورات التنقّل إلى العمل.
وصلتُ إلى المستشفى في الوقت المحدّد: 11.30 صباحاً. هناك رهبة كبيرة للباب: رهبة المرض والموت. خلفه هناك جيش أبيض يكافح لأجلنا، وعلى رأسه الدكتور فراس الأبيض الذي كان ينتظرني في مكتبه.
المعقِّم في حقيبتي، وكمامتان على الوجه. وكفوف في يدي. وعقلي يردّد لي دائماً: “انتبهي ولا تلمسي أيّ شيء.. أبداً”.
دخلتُ من البوابة الكبيرة. هناك أناس في الخارج حرصت ألاّ أقترب من أيّ أحد منهم. حتّى وصلتُ إلى بوابة الأمن، وأخبرتهم عن موعدي وصفتي فأرشدوني إلى الطريق. وهكذا عبرت بين مكاتب الأطباء. لا مرضى ولا أهالي تنفّست الصعداء قليلاً. وأخذتُ أفكر بأولئك الذين يجلسون خلف المكاتب هنا. كيف يعيشون هذا الهاجس بشكل يومي؟ الخوف على الذات وعلى الأهل وعلى المحيط..
أخيراً.. وصلتُ إلى المكتب المنشود. شعرتُ بأنّني اجتزتُ الجزء الأكبر من مسيرة الخطر. فالدكتور فراس الأبيض لا بد أنّه يتخذ دائماً أعلى درجات الاحتياط. والوجوه هناك مرتاحة. لمحتُ ابتسامةً لا نراها خلف الكمامة، وإنما نقرأها في العيون. ابتسامة من يواجه يومياً الفيروس ويخرج منتصراً.
في المكتب نفسه صادفتُ الدكتور محمود حسون، مدير قسم العناية، قوياً كما تخيّلته على الهاتف في اتصالات عدّة أجريتها معه طوال العام الماضي. وسألتُ نفسي: كيف يحافظ هذا الرجل على هذا الهدوء وهذا الأمل؟ وما كلّ هذه النظرات المتفائلة وهو يعمل يومياً مع مرضى العناية الذين يترنّح عشرة منهم على الأقل بين الحياة والموت ويموت كثيرون منهم بين يديه؟
من هناك عبرت إلى مكتب الدكتور فراس الأبيض، وفي جعبتي الخوف “المكبوت” والأسئلة التي أخاف أن يسقط أحدها أو أن يسرقنا الوقت فأنساها. ومع كلّ هذا كان هاجسي الأوّل هو اللقاح، وتشريع القانون الذي طلبته شركة “فايزر” واستفاق عليه اللبنانيون مؤخراً.
في مكتب الأبيض الواسع، كانت المسافة الفاصلة بيننا حوالي المترين ونصف المتر. استأذنته بداية أن أسجّل المقابلة كي لا يفوتني تدوين شيء، فرحّب بالفكرة. فاقتربتُ منه بحذر ووضعتُ الهاتف على مسافة مقبولة منه، مع مراعاة التباعد.
ما هي إلاّ ثوانٍ قليلة حتى طلب مني البدء، مشيراً لي أنّ الوقت المتاح هو 10 دقائق فقط. وقت اكتشفت في آخر المقابلة أني تخطيته إلى 25 دقيقة. من دون أن يبدي أيّ انزعاج من هذا التمديد.
أخيراً.. وصلتُ إلى المكتب المنشود. شعرتُ بأنّني اجتزتُ الجزء الأكبر من مسيرة الخطر. فالدكتور فراس الأبيض لا بد أنّه يتخذ دائماً أعلى درجات الاحتياط. والوجوه هناك مرتاحة. لمحتُ ابتسامةً لا نراها خلف الكمامة، وإنما نقرأها في العيون. ابتسامة من يواجه يومياً الفيروس ويخرج منتصراً
بدأنا المقابلة، وأوّل ما نقلته إلى الأبيض هو القلق الذي استحوذ على قسم كبير من اللبنانيين بعد الحديث عن تشريع نيابي لا بدّ منه للحصول على لقاح “فايزر” الأميركي، والمخاوف من تأخيره. غير أنّ الأبيض طمأن إلى أنّ “تشريع القانون لن يؤخّر وصول اللقاح إلى لبنان”. وأخذ يتحدث عن هذا الملف باطمئنان: “فالموعد الذي أعلنه وزير الصحة ما زال بعيداً، والوقت حتى 15 شباط كفيل بتشريع القانون المطلوب” في وقت مناسب.
لكن الأزمة لن تنتهيَ بمجرد وصول اللقاح إلى لبنان، فهناك مسألتين أساسيتين يطرحهما الدكتور الأبيض، وهما:
– خروج مجموعة من الناس بألف سبب كي لا تأخذ اللقاح. وهذا النقاش بات مطروحاً، ونحن بحاجة إلى التوعية كي لا نواجه هذه المشكلة.
– الأمور اللوجيستية: فإلى كم لقاح سنصل في اليوم عند البدء بعملية التوزيع؟ 10 آلاف؟ 20 ألفاً؟ 30 ألفاً؟ أهمية اللقاح تكمن في سرعة توزيعه ولا يمكن أن نبقى لسنوات ونحن نوزّعه. هذا الموضوع بحاجة إلى تجهيزات وتدريبات ومكننة، وقد سبّب مشكلة في أهم دول العالم، حتّى في أميركا.
لقاح “فايزر” ليس الوحيد المطروح على طاولة النقاش، فالدولة وفق الدكتور الأبيض سعت للحصول على لقاحات مختلفة، من بينها لقاح “أسترازينيكا – أكسفورد” البريطاني، كما أنّها طلبت بيانات عن اللقاح الصيني، وذلك بهدف تأمين اللقاح للجميع.
لكن لماذا لا يُسمح للشركات الخاصة والمستشفيات الخاصة باستيراد لقاحات؟
يجيب الأبيض: “المشكلة ليست في السماح أو عدمه. فالشركات المصنّعة للقاح اليوم تبيعه فقط إلى الدول. ولم يتّضح بعد إن كانت هذه اللقاحات ستباع للقطاع الخاص. وهنا نسأل: هل سيتغير هذا التوّجه؟ هناك كلام مثلاً عن أنّ اللقاح البريطاني سيصبح متوفراً للشركات الخاصة، وما فهمته من اللجنة في وزارة الصحة أنّ كل هذه الأمور لا تزال قيد البحث. لكن حتّى لو سمحت الوزارة اليوم للشركات الخاصة بشراء اللقاح، فستبقى هذه الخطوة مرهونة بقرار الشركات المصنّعة اللقاح”.
لقاح “فايزر” ليس الوحيد المطروح على طاولة النقاش، فالدولة وفق الدكتور الأبيض سعت للحصول على لقاحات مختلفة، من بينها لقاح “أسترازينيكا – أكسفورد” البريطاني، كما أنّها طلبت بيانات عن اللقاح الصيني، وذلك بهدف تأمين اللقاح للجميع
الأبيض الذي يأتمن اللجنة العلمية التي تعمل في وزارة الصحة ويحترم آراء العلماء فيها، يؤكد أنّ أيّ لقاح سيصل إلى لبنان عبرها سيكون جيداً، وسيأخذه، موضحاً في الوقت نفسه أنّ “لقاح فايزر هو لقاح جيّد وهناك معلومات مهمة حوله في المجلات العلمية والأبحاث وأنا شخصياً لن أتردّد بالحصول عليه”.
من اللقاح، إلى شركات الـ”PCR”، والتقارير الإعلامية التي وصفتها بالـ”مافيا” متهمة إيّاها، بالاستثمار في تأخير اللقاح كي تستمر بكسب أرباح شهرية تقارب 100 مليار ليرة… ملفات عدّة ناقشناها والأبيض.
لا يُنكر الدكتور الأبيض أنّ هذه الأسئلة مشروعة، وأنّه عندما يتداخل عامل الربح والخسارة مع عامل الصحة، من الطبيعي أن يسأل المواطن: كيف يتم تحقيق الربح من وراء صحة الإنسان؟ في السياق نفسه، يلفت إلى أنّ 80% من القطاع الصحي في لبنان هو قطاع خاصّ، أي قطاع يبغى الربح.
يُنصف الأبيض هذه الشركات: فهؤلاء لو لم يستثمروا بهذه الفحوصات لما تمكن لبنان من إجراء أكثر من 20 ألف فحص في اليوم. ليبيّن في الوقت نفسه وجود فوارق بين أن يقدم القطاع الخاص المساعدة وأن يحصل على ربح مقبول، وبين الجشع والخروج عن القوانين وتسبيب الضرر للناس لمصالح خاصة. وهنا دور الوزارات في إصدار التعاميم واتخاذ إجراءات تحمي المواطن صحياً، والمراقبة الدائمة إلى أن يتم التأكد من أنّ أيّ تاجر من هؤلاء لا يلعب بموضوع “الكواليتي” عى سبيل المثال.
الأبيض ليس مناهضاً للقطاع الخاص، لكن شرط أن يعمل هذا القطاع ضمن الضوابط العلمية والأخلاقية والصحية والمقبولة. خصوصاً أنّ تجربة جائحة كورونا أظهرت عجز المستشفيات والمؤسسات الحكومية عن القيام بالدور وحدها، وحاجتها إلى مساعدة ولتضافر جهود القطاعين العام والخاص للخروج من هذه الكارثة. ومع ذلك فهو مع التوّجه لدعم القطاع العام صحياً كي يتولّى هو كل شيء، لا سيّما وأن تجربة مستشفى رفيق الحريري كانت ناجحة في هذا المجال.
لا يُنكر الدكتور الأبيض أنّ هذه الأسئلة مشروعة، وأنّه عندما يتداخل عامل الربح والخسارة مع عامل الصحة، من الطبيعي أن يسأل المواطن: كيف يتم تحقيق الربح من وراء صحة الإنسان؟ في السياق نفسه، يلفت إلى أنّ 80% من القطاع الصحي في لبنان هو قطاع خاصّ، أي قطاع يبغى الربح
“تويتر” بالنسبة للدكتور الأبيض، هو وسيلة تواصل تساعد على نشر الوعي لدى المواطنين، منتقداً بعض الآراء السلبية حيال استخدامه هذه الوسيلة. برأيه أنّ “العبرة في طريقة الاستعمال”.
يحزّ في نفس الأبيض الحديث عن “هجرة الأطباء” اللبنانيين، خصوصاً أنّ الذين غادروا لبنان هم من أصحاب الكفاءات والخبرات، ما يعني إفقار القطاع الصحّي اللبناني. غير أنّه في الوقت نفسه يتفهّم أسبابهم: “هم لا يستطيعون حصاد كفاف يومهم”. يقولها بحسرة، معتبراً أنّه “لا بدّ من العمل لأجل تحسين الوضع كي نوقف هذه الهجرة، ففي النهاية لا أحد يهجر وطنه برضاه، الجميع يذهب وفي قلبه حسرة”.
هل خطر لك خيار الهجرة؟
يهدأ الأبيض ويقول متنهداً: “أتمنى ألا اضطر، من يعرفني يعرف جيداً أنّ هذا هو وقت البقاء في لبنان بالنسبة لي. فنحن الأطباء من أهم مبادئنا عدم المغادرة في وقت الحاجة”.
تجربة كورونا، تركت الكثير من الأثر في حياة الدكتور فراس الأبيض. فوالداه سبق وأصيبا بالفيروس، وهو وعائلته يعيشون يومياتهم في حالة من القلق والتشدّد بالإجراءات، لكن “في النهاية لا أمان لأحد”، على حدّ تعبيره.
موت الطبيب الشاب لؤي اسماعيل أثّر كثيراً في معنويات الدكتور الأبيض. هو الموقف الأقسى الذي مرّ عليه خلال تجربة كورونا، فأن يخطف الفيروس زميلاً له يعني أنّه بات قريباً جداً. لاسيما وأنّ وفاة الطبيب شكلت صدمة في مرحلة لم يكن يسجّل خلالها لبنان أعداداً يومية مرتفعة من الوفيات.
في العودة إلى السياسة الصحية، وخياراته لو كان في موقع القرار، لا يتردّ الأبيض بالقول إنّ “هناك خيارات في كلّ شيء في الحياة ومن ضمنها السياسة الصحية. وتلك التي قامت على دعم القطاع العام وتقويته لم تكن خاطئة، بالعكس فالقطاع العام الجيّد ضروري جداً في الظروف الاقتصادية السيئة، فهو يحمي الطبقة الفقيرة التي للأسف تتّسع نسبتها في لبنان. ومن ناحية أخرى في ملف كورونا، أنا وزملائي لدينا آراء مختلفة. فنحن نرى الآثار السيئة لفيروس كورونا ونلتمس المآسي يومياً في المستشفيات. لذلك ندعو إلى التشدّد بالإجراءات. أما أهل الاقتصاد والأعمال فلا يرون مشاكل المستشفيات وإنّما يرونها من زاوية الإغلاق والإفلاس. للأسف حتّى اليوم لم نجد السياسة التي توفق بين الرؤيتين. فالسياستان، الصحية والاقتصادية، تتنافسان وتتعارضان. ونحتاج إلى سياسة موحّدة للقطاعين، ليس فقط على المدى القصير وإنما أيضاً على المدى البعيد. وهذا ما نفتقده في لبنان”.
إقرأ أيضاً: فراس الأبيض لـ”أساس”: اللقاح واعد.. لكن كورونا سيرافقنا طيلة 2021
بعد هذا الحوار خرجتُ من مستشفى رفيق الحريري، ورحتُ أتذكر توصيف الأبيض لواقع لبنان مع الكورونا على أنّه “سيارة من دون فريم”. فالإجراءات التي اتّخذت حالياً وفق الطبيب لن تمنع الاصطدام لكن بوسعها إبطاءه، وبوسعها تحقيق الهدف المرتجى منها وهو “ألا تسبق حالات الكورونا عدد أسرّة المستشفيات وأن تظل المستشفيات قادرة على استقبال المرضى”.
خرجتُ من المستشفى، خائفة أكثر مما دخلته. فجائحة كورونا “كشفت” ضعف نظامنا الصحّي، والأعطاب في نظام كنّا نظنّه “مستشفى العرب والشرق”. وها نحن نتأخّر في الحدّ من أعداد الإصابات، وفي الحصول على اللقاح… وأمثال الدكتور الأبيض يقاتلون باللحم الحيّ تقريباً.
[PHOTO]