طرابلس مدينة المطارنة الأربعة.
كان هذا عنوان زيارة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي إلى الفيحاء، التي حملت عناوين ورسائل وطنية وإنسانية كبيرة، تؤكد رسوخ مبدأ العيش المشترك في أكثر الظروف صعوبة وأشدّها تعقيداً، وبأنّ علاقات اللبنانيين مسلمين ومسيحيين عابرة للأزمنة وثابتة وسط التحوّلات الهائلة التي يشهدها محيطهم المضطرب.
لا يمكن تفسير حضور البطريرك الراعي إلى طرابلس بأقلّ من هذا التقديم، في سياق حدث يزخر بمعاني التلاقي الإسلامي المسيحي، بعد مرور موجة جديدة من التحامل على المدينة والعودة إلى محاولة وصمها بالتطرّف والإرهاب.
فهذه المدينة الصابرة المكلومة المنكوبة بنوّابها وأحزابها، لم تنسَ أنّ لعيشها المشترك حقّاً واجب الإيفاء، فكانت مبادرة بلدية طرابلس بتسمية أربعة شوارع في المدينة بأسماء مطارنة موارنة مرّوا على كرسي المطرانية فيها وهم: أنطون عبد، أنطون جبير، جبرايل طوبيا، ويوحنا فؤاد الحاج، مع الإشارة إلى أنّ أحياء الفيحاء لا تغيب عنها التسميات المسيحية، مثل شارع الكنائس، وشارع المطران وغيرها.
تجوّل البطريرك الراعي في مناطق طرابلس، فهو حضر إلى دار المطرانية، ثم ترأس الذبيحة الالهية في كاتدرائية مار مخايل في الزاهرية، وأزاح بعد ذلك الستارة عن لوحة شارع المطران جبرائيل طوبيا، والتقى نواب طرابلس وفاعلياتها في قاعة كنيسة مار مارون. بعدها انتقل إلى إزاحة الستارة عن لوحتين في شارعي المطرانين أنطون عبد، ويوحنا فؤاد الحاج، كما زار كنيسة مار مخايل في قبة النصر، وأخيراً أزاح الستارة عن لوحة شارع المطران أنطون جبير.
هذه المدينة الصابرة المكلومة المنكوبة بنوّابها وأحزابها، لم تنسَ أنّ لعيشها المشترك حقّاً واجب الإيفاء، فكانت مبادرة بلدية طرابلس بتسمية أربعة شوارع في المدينة بأسماء مطارنة موارنة مرّوا على كرسي المطرانية فيها
خطوة بلدية طرابلس جاءت في مكانها وفي وقتها، وهي عكست إرادة أبناء المدينة بالحفاظ على الهوية المشتركة المتنوّعة لمجتمعهم الذي يخسر كثيراً من ميزاته التفاضلية بتراجع الحضور المسيحي فيه. ولعلّ تسمية الشوارع بأسماء المطارنة الأربعة يحمل تعويضاً معنوياً عن الغياب المسيحي عن المدينة.
كما تؤكد تسمية الشوارع بأسماء المطارنة الأربعة بأنّ طرابلس لا تحمل أيّ إشكالية طائفية، وأنّ مغادرة المسيحيين لها تعود لأسبابٍ اقتصادية جاءت في إطار التحوّلات السلبية التي شهدتها المدينة وتسبّبت في تراجع دورها وموقعها، ما قلّل من رغبة القادرين على مغادرتها، مسلمين ومسيحيين، في البقاء فيها.
يسود الأسف لتراجع الحضور المسيحي في طرابلس، ويبحث أبناء المدينة عن سبل إبقاء شرايين التواصل مع أبناء مدينتهم في محطات عديدة ثقافية واجتماعية واقتصادية وإنسانية، آملين أن تتغيّر الأحوال، ويعود لطرابلس دورها الحضاري الحاضن لأبنائها وللجوار، خصوصاً أنّ المؤسسات الدينية المسيحية لا تزال تحافظ على حضورها التاريخي العريق في المدينة، مع تسجيل خسارة الكثير من المؤسسات التربوية التي فضّلت الانتقال إلى المحيط القريب.
تنتظر طرابلس تولّي المطران المنتخب يوسف سويف مهامه على رأس مطرانية المدينة، وهو الذي سِيمَ في أبرشيتها كاهناً في العام 1987، واستمرّ حتى قرابة العام 2004. فهو يعرف الفيحاء وتعرفه، وكانت له جهود سالفة ومبادرات في معالجة الكثير من الفتن والحوادث التي عصفت بها، فكان إلى جانب المطران الراحل فؤاد الحاج على خطوط المواجهة الأولى لكلّ محاولات زرع الشقاق الطائفي والمناطقي، الذي عمل عليه النظام السوري في سنواته الأخيرة، تحديداً محاولة إثارة النعرات بين أهالي طرابلس وبين اهالي زغرتا وإهدن، من دون أن ينحاز يمنة أو يسرة عن خطه الكنسي المتوازن، فضلاً عن انخراطه في الشأن الاجتماعي بشكل عميق.
يسود الأسف لتراجع الحضور المسيحي في طرابلس، ويبحث أبناء المدينة عن سبل إبقاء شرايين التواصل مع أبناء مدينتهم في محطات عديدة ثقافية واجتماعية واقتصادية وإنسانية، آملين أن تتغيّر الأحوال، ويعود لطرابلس دورها الحضاري الحاضن لأبنائها وللجوار
يتفاءل الطرابلسيون بالتجربة التي راكمها المطران سويف: فهو من مواليد شكا في 14 تموز 1962. سيم كاهنًا في أبرشية طرابلس المارونية في 5 أيلول 1987. نال إجازة في اللاهوت، وشهادة دكتوراه في العلوم الكنسية المشرقية – قسم الليتورجيا من المعهد البابوي الشرقي في روما.
انتخبه مجمع الأساقفة الموارنة برئاسة البطريرك الكردينال مار نصرالله بطرس صفير مطرانًا على أبرشية قبرص، وتمّت سيامته الأسقفية في بازيليك سيدة لبنان – حريصا في 6 كانون الأول 2008.
إقرأ أيضاً: المسلمون عالقون بين اليمين الفرنسي وجهاديي قطع الرؤوس
منذ ذلك الوقت شغل مناصب عدة أبرزها: رئيس كاريتاس قبرس، أمين سر خاص لسينودس الأساقفة من أجل الشرق الأوسط وعضو في لجنة متابعة أعماله، عضو المجلس التنفيذي لمنظمة كاريتاس الدولية، زائر رسولي للموارنة في اليونان، رئيس اللجنة البطريركية للشؤون الليتورجية.
أسّس المطران سويف في قبرس “منظمة عدالة وسلام”، و “Stella Orientis”للسياحة الدينية والثقافية، و”مؤسسة بيت مورون” التابعة للمطرانية، وشارك في مؤتمرات دولية ممثّلاً كنيسة قبرس واستضاف العديد منها.
المطران سويف أستاذ محاضر في العلوم الليتورجية في جامعة الروح القدس – الكسليك، الجامعة الأنطونية، جامعة سيدة اللويزة وجامعة الحكمة، وهو يتكلّم اللغات العربية، والفرنسية، والإيطالية، والإنكليزية، واليونانية الحديثة. ويلمّ بالألمانية والإسبانية.
شهادة شخصية:
ما نعرفه عن المطران سويف أنّه يؤمن بفكرة العيش المشترك الصادق المبنيّ على المعايشة والتواصل والتكاتف، وبعدم الاكتفاء بالشكليات. وهذا ما عايشناه معه خلال وجوده في طرابلس، فلم تكن تعنيه الصور ولا البروتوكولات بقدر ما يعنيه عيش الناس وتعاونهم على البرّ والخير ومساعدة الفقراء وتعزيز النسيج الاجتماعي والبحث عن الحلول للإشكالات والقضايا التي تواجه المجتمع.
كنيسة طرابلس المارونية بمطرانها الجديد يوسف سويف، ودار الفتوى على رأسها سماحة الشيخ محمد الإمام، وهو المعروف بتقواه وورعه، وبسعيه للخير والصالح والعام، يمكن أن يفتحا معاً نافذة أمل لخطوات تُسهم في تحسين ظروف المدينة وبتجربة تعاون ناجحة بين القيادات الدينية تكسر من إرهاب الفقر وتخفّف من غلواء تطرّف الحرمان، من خلال مبادرة مشتركة تتوجّه إلى المرجعيات العربية والدولية والإسلامية والمسيحية لفتح ثغرة تسمح بمعالجة تداعيات الانهيار في المدينة وجوارها، وهذا هو جوهر العيش المشترك.