لا يدخل كلام البطريرك الماروني بشارة الراعي الأحد الماضي في خانة “غير المتوقّع”. أي استنكاره مطالبة طائفة، لا أحزاب محدّدة، بـ”وزارة معيّنة كأنّها ملك لها، وتعطّل تأليف الحكومة”. فليس “غير المتوقّع” أمراً شائعاً في السياسة إلّا لمن يتابعها من بعيد، لأنّ أيّ مناخ سياسي هو نتاج مسار يتأسّس على ممارسة وخطاب سياسيين. وهو ما يمكن معاينته بدقّة في لبنان الذي باتت اللعبة السياسية فيه، ومنذ ما قبل التسوية الرئاسية في العام 2016، لعبة قائمة على مبدأ أنّ الأحزاب القوية ضمن بيئاتها الطائفية، تختزل طائفتها، على نحوٍ أصبح معه التمييز بين الطائفة وحزبها أو أحزابها الرئيسية محالاً.
إقرأ أيضاً: سجعان قزّي لـ “أساس”: ما فائدة تطوير النظام اللبناني في ظلّ السلاح
ضمن هذه اللعبة بالتحديد، انتخب ميشال عون رئيساً للجمهورية بوصفه رئيس الحزب القوي في طائفته، “التيار الوطني الحرّ”، والمدعوم من حزب مسيحي قوي أيضاً هو “القوات اللبنانية”. وقد قال كلاهما إنّهما يمثّلان 85 في المئة من المسيحيين، وذلك بعدما عُطّلت الانتخابات الرئاسية تحت هذا الشرط لسنتين ونصف السنة. وقبل ذلك، قال الثنائي “حزب الله” و”حركة أمل” إنّ نبيه برّي يكون رئيس البرلمان أو لا يكون أحد. ثم جاء “نادي الرؤساء السابقون” الأربعة، ليختار اسم رئيس الحكومة مصطفى أديب، وهي المرّة الأولى التي يسمح لهم، أو يطلب منهم، هذا الاختيار. والآن، فإنّ المأزق الحكومي هو أيضاً نتاج اللعبة ذاتها، أي لعبة الفيتوات الطائفية على العملية الدستورية. فإمّا أن يُلبّى شرط “الثنائي الشيعي” المختزل لطائفته، وإمّا فلا حكومة.
من الدلالات المهمّة للموقف البطريركي أنّه ربط بين “مطالبة طائفة بوزارة معيّنة”، وبين محاولتها فرض طلبها بـ”قوّة ما أو استقواء”. وهو بذلك نزع الشرعية السياسية والدستورية عن تلك المطالبة وجعلها استقوائية بحت – بفعل السلاح غير الشرعي – “تناقض مفهوم المساواة بين الطوائف”
كلام البطريرك الراعي هو في السياق عينه وانقلاب عليه في الوقت نفسه. أي أنّه ينطلق في مقاربته للأزمة الحكومية من منطلق الاختزالية الحزبية للطوائف، وذلك باستنكاره مطالبة طائفة بـ”وزارة معيّنة”. لكنّ معارضته هذا المنحى لا بدّ أن تفتح الباب نحو الانقلاب على المسار والخطاب السياسيين اللذين كرّستهما التسوية الرئاسية (2016) بحيث جعلت “حقوق” الطوائف فوق الدستور، وإلا يكون الاعتراض البطريركي اعتراضاً موضعياً لا يؤسّس لمسار سياسي جديد.
لكن أيّاً تكن مآلات موقف الراعي الذي يأتي كحلقة من سلسلة مواقف أسّس لها نداؤه في الخامس من تموز 2020، فإنّ كلامه في هذه اللحظة يحمل دلالات مهمّة على حقيقة المأزق السياسي في لبنان، والذي يتأرجح أو يراد له أن يتأرجح بين كونه تعبيراً عن أزمة نظام أو أزمة حكم.
ومن الدلالات المهمّة للموقف البطريركي أنّه ربط بين “مطالبة طائفة بوزارة معيّنة”، وبين محاولتها فرض طلبها بـ”قوّة ما أو استقواء”. وهو بذلك نزع الشرعية السياسية والدستورية عن تلك المطالبة وجعلها استقوائية بحت – بفعل السلاح غير الشرعي – “تناقض مفهوم المساواة بين الطوائف”.
والحال أنّ الموقف البطريركي من سلاح “حزب الله” يترجم توسّع دائرة الاعتراض عليه لتشمل الوسط المسيحي الذي كان طيلة السنوات الماضية، وتحديداً منذ شباط 2006 تاريخ توقيع تفاهم مار مخايل بين “التيار الوطني الحرّ” و”حزب الله”، منحازاً بغالبه الأعمّ إلى تبرير هذا السلاح لاعتبارات الحماية من الخطر الإرهابي وحتّى من خطر توطين اللاجئين الفلسطينيين، وإن وفق قراءة غرضية وطائفية بحت للواقع الفلسطيني في لبنان.
لقد أسّس الراعي ومنذ “نداء 5 تمّوز”، لخطاب سياسي جديد في الوسط المسيحي، يقطع إلى حدّ بعيد مع الخطاب “المطبّع” مع السلاح غير الشرعي. لكن الأهمّ وفي ظلّ المعطيات السياسية الحالية، وخصوصاً لجهة الوهن الذي أصاب العهد حليف “حزب الله” – وهو وهن جعله يعيد النظر في خطابه – أنّ موقف البطريرك من السلاح غير الشرعي يرسم سقفاً للممارسة السياسية المسيحية، بحيث لا يعود بمقدور أيّ طرف أن يتجاهله، بما في ذلك “التيار الوطني الحرّ”. وهذا ما دفع جبران باسيل إلى تبنّي “تحييد” لبنان ودعوته إلى حوار حول “الحياد”.
إذا كان البطريرك الراعي قد استبق زيارة ماكرون الثانية برفضه “المساومات على حساب الكيان اللبناني”، وهو ما فُهم وقتذاك على أنّه رفض لـ “العقد السياسي الجديد”، فهو حدّد بشكل لا لبس فيه، الموقف السياسي الماروني من مسألة تعديل النظام بتأكيده عدم الاستعداد لـ”البحث بتعديل النظام قبل أن تدخل كلّ المكوّنات في كنف الشرعية وتتخلّى عن مشاريعها الخاصة”
بهذا المعنى، فإنّ أصداء موقف البطريرك تردّدت بقوّة في أروقة القصر الجمهوري، الذي باتت العقدة الحكومية “الشيعية” حملاً ثقيلاً عليه. ولاسيّما أنّ ثنائي “حزب الله” و”حركة أمل” ليس في وارد التراجع عن مطالبته بوزارة المال، وذلك لأسباب تتداخل فيها المعطيات الداخلية لجهة سعي الثنائي المذكور لتكريس “شراكته في السلطة الإجرائية” – على ما ورد في ردّ “المجلس الاسلامي الشيعي” الأعلى على الراعي – بتلك الخارجية، في أوج المواجهة الأميركية الإيرانية، خصوصاً بعد إعلان واشنطن إعادة فرض العقوبات الأممية على طهران.
لكن وبما هو أبعد من تعقيدات اللحظة السياسية الراهنة، فإنّ موقف البطريرك والردود عليه، أعاد التأكيد مرّة جديدة على الاستحضار غير المسبوق منذ عشيات الحرب الأهلية لمسألة تعديل النظام السياسي. وهو استحضار جلب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ماء متدفّقاً إلى طاحونته بحديثه عن “عقد سياسي جديد” خلال زيارته الأولى لبيروت في 6 أب، قبل أن يسحب كلامه هذا، ولكن من دون أن يطويه نهائياً، وإلا لكان أوضح قصده خلال زيارته الثانية في الأول من أيلول.
وإذا كان البطريرك الراعي قد استبق زيارة ماكرون الثانية برفضه “المساومات على حساب الكيان اللبناني”، وهو ما فُهم وقتذاك على أنّه رفض لـ “العقد السياسي الجديد”، فهو حدّد بشكل لا لبس فيه، الموقف السياسي الماروني من مسألة تعديل النظام بتأكيده عدم الاستعداد لـ”البحث بتعديل النظام قبل أن تدخل كلّ المكوّنات في كنف الشرعية وتتخلّى عن مشاريعها الخاصة”. وإن كان لم يسقط تماماً إمكانية إعادة النظر في النظام وتوزيع الصلاحيات والأدوار، و”لكن بعد تثبيت حياد لبنان بأبعاده الثلاثة: بتحييده عن الأحلاف والنزاعات والحروب الإقليمية والدولية؛ بتمكين الدولة من ممارسة سيادتها على كامل أراضيها بقواتها المسلحة دون سواها؛ بانصراف لبنان إلى القيام بدوره الخاص ورسالته في قلب الأسرة العربية”.
لكنّ اللافت أيضاً في كلام الراعي إشارته إلى أنّ “التخصيص والاحتكار الطائفي لوزارة بعينها “يمسّ بالشراكة الوطنية ببُعدها الميثاقي والوحدوي”، وهو بذلك يكون قد شهر “الفيتو الماروني” في ما يخصّ تعديل النظام. إذ اعتبر أنّ محاولة ثنائي “حزب الله” و”حركة أمل” لتثبيت “التوقيع الشيعي” في السلطة الإجرائية بما يحيل إلى مبدأ المثالثة في النظام، هو بمثابة تهديد لوحدة لبنان. هذا وقد عمّمت أوساط البطريرك بعد عظة الأمس أنّ بكركي ترفض المثالثة كما التقسيم، وهو ما يعني عملياّ أنّ البطريركية المارونية ترسم المعادلة التالية: تطالبون بالمثالثة نطالب بالتقسيم!