ماكرون: استراتيجية طرح الشيء ونقيضه

مدة القراءة 7 د


إيمانويل ماكرون ليس سياسياً تقليدياً. وهو ليس مصرفياً عادياً. قفز فجأة إلى رئاسة الجمهورية، متغلّباً على أحزاب اليمين، منقلباً على حزبه الاشتراكي السابق. هو قبل ذلك كله، طالب فلسفة، ولا أيّ طالب، بل أمضى ما يقارب عامين، يحرّر كتاباً للفيلسوف الفرنسي المشهور بول ريكور*، تحت إشرافه، متخطّياً المهمة الأصلية إلى طرح ملاحظات توجيهية وناقدة واقتراح اقتباسات.

صدر الكتاب بعنوان “الذاكرة، التاريخ، النسيان” “La mémoire, l’histoire, l’oubli”، عام 2000. وقد شكره ريكور في مقدّمة الكتاب، مُقرّاً أنّ ماكرون “قدّم نقداً صائباً للكتابة، كما هيئة الجهاز النقدي لهذا الكتاب”. وعندما فاز بالرئاسة عام 2017، لفت الأنظار، بقدرته الفائقة على تخطّي الأحزاب التقليدية، وعلى طريقته الشعبوية باستمالة الناخبين، وبصغر سنّه (لم يكن أتمّ الأربعين حين صار رئيساً). وبحثوا عن الرجل الذي أثّر في تكوينه الفكري ومنهجه السياسي، فوجدوا بول ريكور. أما وجوه الشبه بينهما فكثيرة، ظاهرة وباطنة. فلسفياً، من الصعب تصنيف ريكور، وسياسياً من الصعب تصنيف ماكرون.

إقرأ أيضاً: رسالة إلى الرئيس ماكرون: لا شرعية لحزب الله

هل إيمانويل ماكرون هاوي سياسة يتلاعب به المحترفون، متقلّب في مواقفه لا يستقرّ على رأي، أم هو مغامر داهية يبدأ من الأقصى ويصل إلى الأدنى، ويعرف جيداً معالم التسوية بين الحدّين المتناقضين كما كان دأب ريكور؟

كان ريكور عملياً في موقفه النظري، من أيّ قضية، ويجهد للعثور على موازنة الآراء المتعارضة والمتطرّفة ثم التوفيق بينها. في حين أنّ الفلاسفة الآخرين، كانوا يجترحون معادلات نظرية تصلح لكلّ موقف مهما اختلف.

بولتون الذي كان يعتبر ماكرون رجلاً ذكياً، قال ما يلي: “أيزنهاور كان يقول: عندما تواجه مشكلة لا يمكنك حلّها، فوسّع نطاقها. ويبدو لي أنّ هذا ما يفعله ماكرون”. يكبّر المشكلة العاجز عن حلّها

وظهر أثر ذلك في المنهج العملي لماكرون أثناء ممارسته السياسة، ما دفعه إلى تأسيس حزبه الخاص، والابتعاد عن المنظّرين اليساريين واليمينيين. وثمّة عبارة تتردّد غالباً على لسان ماكرون، هي بتأثير واضح من ريكور. يقول: “وفي الوقت نفسه”، “et en même temps”، وهو كما لاحظ الفيلسوف الفرنسي أوليفيه آبل Olivier Abel، يذكر هذه العبارة عندما يعلن عن خطط غير متناسقة بعضها مع بعض، مثل تحرير سوق العمل من جهة، وحماية الفئات الأكثر تعرّضاً لمخاطر هذا الإجراء، من جهة أخرى. يوافق  أستاذ اللاهوت في جامعة هادين – سيمونز دان ستايفر Dan Stiver،  على أنّ ماكرون يحاول فعل شيئين متناقضين في الوقت نفسه، وهو ما يجعله قريباً جداً من منهج ريكور. ويقول ستايفر: “في الفلسفة، يقولون غالباً عن هذا المنهج إنه جدلي، وذلك عندما تأخذ موقفين متناقضين، أو مختلفين جداً، وتحاول الوصول إلى موقف وسط”. وبحسب تعبير ستايفر: “إنّ ماكرون حريص جداً على عدم إعطاء وعود غير واقعية بالمرة، حين يكون غير قادر على الإيفاء بها. لكنه في الوقت نفسه، يمكنه أن يكون رؤيوياً بشأن المستقبل، ومتأمّلاً في الأمور التي يمكن فعلها”. وعلى الرغم من أنّ ريكور كان حذراً من الحقائق المطلقة، لكنه لم يكن يرى في المقابل أنّه علينا أن نكون خالين من أيّ عقائد، وكان يرى أنّه كلما كان الموقف عملياً، قاد إلى نتائج أفضل. وبخلاف القادة الشعبويين في اليسار واليمين، ليس ماكرون مثالياً متعصّباً. إنه بدلاً من ذلك، يحبّ التسويات. 

أمر آخر من استراتيجية ماكرون في التفاوض السياسي، لاحظه جون بولتون المستشار السابق للأمن القومي في إدارة ترامب، ودوّنه في كتابه الكاشف لأسرار البيت الأبيض (“الغرفة التي شهدت الأحداث”). يقول بولتون إنّ الرئيس الفرنسي الذي قام بزيارة دولة إلى الولايات المتحدة في 24 نيسان عام 2018، حاول ثني ترامب عن قرار الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني. كان ترامب يراه اتفاقاً سيئاً أبرمته إدارة سلفه باراك أوباما. وافق ماكرون على هذا الوصف معتبراً إياه غير كافٍ، لكن عرض على ترامب الإبقاء عليه، والتفاوض على اتفاق أوسع نطاقاً، قائم على أربعة أركان هي: ” البرنامج النووي الإيراني الآن، البرنامج النووي الإيراني غداً، برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني، والسلام والأمن الإقليميان”. سأل ترامب جون بولتون رأيه. بولتون الذي كان يعتبر ماكرون رجلاً ذكياً، قال ما يلي: “أيزنهاور كان يقول: عندما تواجه مشكلة لا يمكنك حلّها، فوسّع نطاقها. ويبدو لي أنّ هذا ما يفعله ماكرون”. يكبّر المشكلة العاجز عن حلّها.

ماكرون مغرم بفكرة إعادة التأسيس، أو تأسيس شيء جديد. هذا ما فعله، عندما ترك الحزب الاشتراكي، وأسس حزباً جديداً

فما الذي فعله ماكرون بين زيارتيه إلى بيروت في أقل من شهر، بعد انفجار المرفأ في 4 آب، وقبيل مئوية لبنان في 1 أيلول؟ قام ببساطة بممارسة نهجه المعتاد، محاولة الجمع بين الآراء المتناقضة، ما يعني إغفال مواقف أوّلية كان أعلنها قبيل الزيارة الأولى وبعدها، وتحوم دون وضوح حول إعادة تأسيس النظام اللبناني بمقابل الحديث عن ضرورة دمج حزب الله بالنظام الجديد، أي العودة إلى الداخل، وتسليم سلاحه. هذا ما فُهم على الأقل. ومعلوم مما سبق أنّ ماكرون مغرم بفكرة إعادة التأسيس، أو تأسيس شيء جديد. هذا ما فعله، عندما ترك الحزب الاشتراكي، وأسس حزباً جديداً. تخلى عن اليسار، دون أن يلتحق باليمين منتهجاً مساراً ضبابياً، يسمّى وسطاً. في المقابل، طرح حكومة وحدة وطنية في لبنان، وهي عملياً تعوّم الطبقة السياسية ومعها النظام. تخلّص سريعاً من عبارة “حكومة الوحدة الوطنية”، بعدما نبّهوه إلى أنّها كلمة مكروهة في الشارع، لكنه لم يخرج عن قواعد اللعبة، فالبرلمان الذي لن يتغيّر بسبب تظاهرات شعبية، هو الذي سيمنح الثقة للحكومة الجديدة المكلّفة بالإصلاحات وبإجراء انتخابات مبكرة في مهلة أقصاها سنة، بحسب ما جاء في الورقة الفرنسية الجاهزة لتكون البيان الوزاري!

وقبيل الزيارة الثانية، أطلق ماكرون ومعه وزير الخارجية جان إيف لودريان، تصريحات مرعبة، ترافقت مع تسخين الشارع اللبناني بصدامات غامضة الهدف والسبب. ماكرون قال إنّ “لبنان إن لم يُنقذ، ستشتعل فيه حرب أهلية”. ووزير خارجيته قال إنّ “لبنان يواجه خطر التلاشي”.

في الزيارة الأولى، أطلق ماكرون حزمة مطالب عالية السقف، تصل إلى التبشير بلبنان جديد، وفي الزيارة الثانية، ألمح إلى أسوأ الاحتمالات فيما لو لم يندرج السياسيون في لبنان في مسالك خطة إنقاذية، فعّالة وسريعة، لا تتخطّى مفاعيلها الأشهر القليلة، قبل الإفراج عن شيء من أموال “سيدر” أو صندوق النقد الدولي. ولا أحد يدري ولا حتى ماكرون، ما ستكون الحصيلة الجدلية المتأتّية بين الشيء ونقيضه.

إنّه أشبه ببوق مقلوب، يبدأ من أوسع نطاق وينتهي بأضيق ثغر. صارت أكبر الأماني إنقاذ لبنان بحزمة إجراءات مالية وإدارية صارمة. وما خلا ذلك، مجرّد وقائع سياسية، وعلى اللبنانيين أن يتعايشوا معها، ويتعلّموا المراوحة فيها بين الذاكرة والنسيان، لعلّ التاريخ يُكتب يوماً!

 

·      بول ريكور (1913-2005): من أشهر الفلاسفة الفرنسيين في القرن العشرين. اطّلع على الفلسفة الألمانية وهو جندي أسير لخمس سنوات في معتقل ألماني خلال الحرب العالمية الثانية. جمع بين الوصف الظاهراتي (الفينومينولوجي) والتحليل التأويلي (الهيرمينوطيقي). وكان عابراً للعلوم والمجالات المعرفية والأدبية، فكتب في الفلسفة واللغة والأدب، وكانت له مواقف سياسية معتدلة بإزاء القضايا العربية.   

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…