مضى زمن حُكم فيه لبنان وفق معادلة التوازن الدقيق بين منظومتي المقاومة والاقتصاد، والتي اختزلها تصريح للزعيم الدرزي وليد جنبلاط، حول التعايش بين هونغ كونغ وهانوي.
لم يتجاوز الصراع المكتوم بين المنظومتين، حدود تهديد التعايش الصعب، إلا بعد أن وصلت إلى لبنان الهزات الارتدادية لزلزال 11 أيلول 2001. مع سقوط نظام صدام حسين في العراق 2003، فاض المشروع الإيراني في المنطقة ووصل إلى لبنان على دم رفيق الحريري عام 2005.
أسّس هذا السياق بنية صراعية قاسية بين إيران والغرب، لم يخرقها الا هدنات متقطعة بين إيران وواشنطن جورج بوش في منتصف ولايته الثانية، ولاحقاً مسار التفاهم بين إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، من دون أن يخفّف من شهوات طهران لتغليب أي هانوي على أي هونغ كونغ حيثما حلّت هذه الثنائية، لا سيما في لبنان والعراق وأفغانستان.
إقرأ أيضاً: حرب السلطة والمصارف: حكمان يتساقطان
وجرى في كل بقع هذه الثنائية، تطويع أدوات هونغ كونغ لخدمة مشروع هانوي. فموّل النفط العراقي نشطات فيلق القدس الخارجية، عبر وضع حكومة نوري المالكي عائدات مئتي ألف برميل نفط يومياً بتصرف قاسم سليماني طوال سنوات. وفي أفغانستان أوغلت إيران في إدارة الحرب الأهلية على قاعدة “لا تموت الدولة ولا تفنى طالبان” بما يمنع ولادة هونغ كونغ سنية على حدودها التي تتجاوز 936 كلم. كما استخدمت أفغانستان لتأمين أسواق لمنتجاتها خارج دائرة العقوبات، بالاضافة الى أن 60 ٪ من تجارة الأفيون الأفغاني تُهرّب عبر الحدود الإيرانية، وهو رافد مهم لعائدات الجريمة المنظمة التي تديرها بعض دوائر الحرس الثوري الإيراني بين أفغانستان وأميركا الجنوبية وبين إفريقيا ولبنان، الذي طوّع بعض قطاعه المصرفي، أو هكذا تظن واشنطن، لخدمة هانوي اللبنانية.
من هنا تُفهم حرب العقوبات على حزب الله والتشدّد الأميركي في فرض معايير التدقيق والرقابة على مصرف لبنان وعبره.
في الواقع نجح نجاحاً باهراً هذا المسار الذي جعل من وزارة الخزانة الأميركية في مقدمة الأجهزة الأميركية في إدارات واشنطن لصراعاتها ومصالحها حول العالم. وقد شهد لبنان تدمير مصارف هي “بنك المدينة” و”بنك جمال ترست بنك” و”البنك اللبناني الكندي”، بسبب تقييم أميركي، معلن أو غير معلن، يضع هذه المصارف في دائرة خدمة أنشطة حزب الله. وفي ضوء بقاء مصرف “شيعي” واحد هو بنك “الشرق الاوسط وأفريقيا” (ميب) تكون واشنطن قد نجحت عملياً في وضع بيئة مالية كبيرة تعتقد أنّها واجهة مالية واقتصادية لحزب الله خارج النظام المصرفي اللبناني.
بهذا المعنى، فإنّ حزب الله بشكل خاص، و”الثنائي الشيعي” بشكل عام، يتصرف على قاعدة أن لا قطاع سيستمر إن بقيت مصالح الثنائي خارجه، وأن أهون الشرور هي العودة الى الاقتصاد النقدي “cash economy” الذي عبره يستعيد حزب الله يده العليا في الاقتصاد اللبناني..
لا تُفهم الخطوة الأخيرة للمدعي العام المالي القاضي علي إبراهيم، خارج هذا السياق الصراعي الكبير بين حزب الله وبين القطاع المصرفي الذي بات الحزب خارجه، والذي يتهمه الحزب بالتواطؤ غير المبرّر مع “العدوان الأميركي” عليه من خلال المبالغة في تطبيق التعليمات الأميركية، كما حذّر أمين عام حرب الله حسن نصرالله مراراً.
من خارج كل سياق، قرّر القاضي إبراهيم وضع إشارة “منع تصرف” على أصول 20 مصرفاً لبنانياً، وإبلاغه إلى المديرية العامة للشؤون العقارية، وأمانة السجلّ التجاري، وهيئة إدارة السير والآليات، وحاكمية مصرف لبنان، وجمعية المصارف، وهيئة الأسواق المالية، مع تعميم منع التصرّف على أملاك رؤساء مجالس إدارة هذه المصارف. وهو قرار جمّده مدعي عام التمييز غسان عويدات بدعوى حماية “المصلحة الوطنيّة”. أي أن أعلى سلطة قضائية في لبنان “تتهم” قاضياً في أكثر المواقع القضائية حساسية وفي ذروة أزمة اقتصادية ومالية ونقدية غير مسبوقة في تاريخ الجمهورية، بالإقدام على ما يؤذي “المصلحة الوطنية” التي تعني مصالح عموم اللبنانيين.
ما قاله الرئيس بري هو دعوة الى عملية “تخلّف عن الدفع” من دون وجود خطة لليوم التالي، حيث إن لا شيء اسمه إعادة هيكلة غير مقيدة أو مشروطة في العالم
والأنكى أنّ القاضي إبراهيم، ومن خارج أي صفة أو صلاحية تنظيمية “regulatory” تبرّع بطمأنة المودعين إلى إجراءات ستتخذ لحماية أموالهم، وهي غاية “نبيلة” لا يملك القاضي الموقّر ما يُعينه على تحقيقها.
من يتهمون خطوة القاضي ابراهيم بتسييس قراره يستندون إلى معطيين:
أولاً: طبيعة الاسئلة التي طُرحت خلال التحقيقات التي أجراها مع رؤساء مجالس الإدارة المُساءلين، والتي يصفها أحد العارفين “بالأسئلة الأخلاقية والضميرية” التي لا تستند إلى معطيات أو أرقام أو مواد قانونية جرت مخالفتها أو تحويلات محدّدة مشكوك بطبيعة مصادر أموالها أو الجهات المحوّلة اليها. تحقيق أخلاقي يهدف إلى تثبيت الصفة الاتهامية على المصارف وتعزيز انطباع جماهيري بأنّ المصارف هي العدو وليس أي أحد آخر، وهو اتهام له ما يسنده بإزاء الأطماع المهولة للمصارف والمصرفيين والتي تكشفت منذ ثورة ١٧ تشرين الأول.
ثانياً: ما نقل عن رئيس مجلس النواب نبيه بري من مداولات لقاء الأربعاء بشأن تفضيله “إعادة الهيكلة (للديون والمستحقات) دون قيد أو شرط ودون دفع أي مبلغ أو نسبة من المبلغ أو فائدة”، وإلا فعدم الدفع ولو أدى ذلك إلى تعثّر الدولة.
ما قاله الرئيس بري هو دعوة الى عملية “تخلّف عن الدفع” من دون وجود خطة لليوم التالي، حيث إن لا شيء اسمه إعادة هيكلة غير مقيدة أو مشروطة في العالم. موقف برّي هو عملياً دفع للبنان باتجاه الإفلاس الرسمي والتسبّب بتسونامي انهيارات في القطاع الخاص المصرفي وغير المصرفي.. في وقت تزدهر فيه التسريبات عن تهيؤ أشخاص محدّدين للدخول عبر صناديق تمويلية لشراء المتساقط من الاقتصاد اللبناني وإعادة إنتاج نخبة اقتصادية جديدة في البلاد.
أخطر ما في قرار القاضي إبراهيم أنّه لاقى استحساناً جماهيرياً، ما يعني أن الثنائي حجز مقعداً له في صفوف ثورة تشرين من بوابة الاستثمار في الغضب المشروع للناس على المصارف وخوفها على مصير ودائعها، أي نجح حزب الله في تعيين هدف للثورة غير كارثة سلاحه على البلد وغير كارثة الطبقة السياسية التي يتغطى بها، وباتت تعمل عنده في الكبيرة والصغيرة.
ليس هذا المقال مطالعة في الدفاع عن المصارف. فمسؤوليتها كبيرة عن وصولنا إلى ما وصلنا إليه، نتيجة الاستثمار الجشع في الدولة اللبنانية المنهارة واقتصادها المريض المدمن على المديونية.
المصارف مسؤولة. لكن الطبقة السياسية ليست بريئة
لكن ينبغي توضيح المعادلة: المصارف أقرضت دولة. الدولة بما هي منظومة فساد ومحسوبية بدّدت هذه الأموال. الدولة وليس المصارف. مسؤولية المصارف أخلاقية، أولاً لأنها أمعنت في تمويل منظومة الفساد. ومسؤولية حاكم مصرف لبنان كبيرة في هذا الخصوص. دغدغته “أحلام” الرئاسة للوصول إليها لا يملك إلا مرتكزين: البقاء أطول فترة ممكنة حاكماً لمصرف لبنان، وأن يخرج من المصرف إلى القصر. وللبقاء، عليه الإمعان في الخضوع لشهوات الطبقة السياسية وتمويل فسادها وماكينة الزبائنية التي تدير عبرها شعبيتها ومشروعيتها وفي كل مرة تحت عنوان أنّ “الإصلاحات آتية لا محالة”.
المصارف مسؤولة. لكن الطبقة السياسية ليست بريئة. ووضع اللبنانين أمام وهم الخيار بين الاثنين، هو كمثال الجندي النازي الذي ظن أنه يعطي الأم خياراً حين سألها أيُّ من ولديها الاثنين سيدخل معها إلى أفران أوشفيتز ومن سيبقى خارجها.
لا يمكن لطبقة سياسية، أو لأكثر أطرافها مسؤولية عن الخراب، ممن بدّدوا أموال اللبنانين بالهدر والفساد والزبائنية والاستحواذ الإجرامي على النشاط الاقتصادي، وتواطأوا مع المصارف لتمويل حضورهم واستمراريتهم من جيوب المودعين، أن يرتدوا عبر”قضاء” هم من أنشأه، رداء الحكم والدفاع عن مصالح اللبنانيين.