بحرٌ من أسرار وخفايا، بعضها مُذهل حقاً، يكشفه السفير السعودي السابق في لبنان عبد العزيز خوجة، الذي صار لاحقاً وزيراً للثقافة والإعلام، في كتاب سمّاه “التجرِبة”، يصدر قريباً.
الكتاب قدّمه صاحبه على أنّه “تفاعلات الثقافة والسياسة والإعلام”، يروي فيه سيرته الحافلة صعوداً في المملكة العربية وخارجها، ومن ضمنها تولّيه منصب سفير بلاده في لبنان خلال أخطر حقبة من تاريخه، بما أتاح لخوجة مساهمة فعالة باسم بلاده في ظل قيادة الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز، في تحقيق ما يمكن اعتباره “الاستقلال الثاني للبنان” عام 2005. وهو كان إنجازاً لم يتنبّه اللبنانيون لمدى أهميته ولم يُعطَ حقه بل جرى التفريط به لاحقاً، ويُضاف إلى المساهمة السعودية الفعالة في إنهاء حروب لبنان من خلال “وثيقة الوفاق الوطني” في الطائف وإطلاق المشروع العملاق لإعادة إعمار ما دمرته الحروب في هذه البلاد المنكوبة.
إقرأ أيضاً: في ذكرى “الرفيق”.. أحرارٌ نصنع دولتنا
في ما يلي فقرات مستلّة من المذكرات، تتعلّق بإنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، تليها في حلقتين أحداث مشوّقة سجلها الوزير، السفير السعودي السابق، بسلاسة قلم أديب مؤرخ للّحظة الحاضرة وخلفياتها وعالم بأطباع الشعوب، صودف أنه مرَّ بلبنان ولم يتركه قبل أن يحفر في أحداثه أثراً عميقاً.
*****
خيّم على الساحة السياسية والاجتماعية في لبنان (بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري) الكثير من الغموض. ثم بدأت سلسلة انفجارات لسيارات مفخخة في عدد من ضواحي بيروت تستهدف المناوئين لسورية وتسلطها على لبنان. التقيت السفير الأميركي جيفري فيلتمان والسفير الفرنسي برنار إيميه واقترحت عليهما تشكيل محكمة دولية لمعرفة من اغتال الحريري، فرّحبا بالفكرة. وتسبّبت هذه المحكمة بتداعيات كثيرة وكبيرة، وصدمة لسورية وحلفائها.
كانت فكرة المحكمة الدولية لمعت في ذهني بفضل حسن نصرالله، حين اقترح عليَّ تأسيس محكمة عربية للنظر في جريمة الاغتيال. بعدما تركت نصرالله واختليت بنفسي، قلت إنّ هذه الفكرة لن تصل إلى مكان، لأنّ الخلافات العربية ستخنق المحكمة، فلتكن محكمة دولية إذن لتحقيق أعلى درجات الحيدة والتجرد.
اقترحت الفكرة على الملك عبد الله والأمير سعود الفيصل فوافقا، ثم طرحتها على الشيخ سعد الحريري والرئيس فؤاد السنيورة (الذي استعان في الاجتماع بأمين عام مجلس الوزراء القاضي سهيل بوجي) ، فأيّداها بكل حماسة. وبعد ذلك أمّنت المملكة موافقة الدول الكبرى على الفكرة.
إجتمعت مع حسين الخليل (المعاون السياسي لنصرالله) في منزل السياسي والصحافي مصطفى ناصر، لأبلغه بمشروع المحكمة الدولية، فردّ الخليل: “إذا قامت المحكمة الدولية فسنحرق البلد”. وفي ما بعد أضاف السفير الإيراني في لبنان محمد رضا شيباني: “لن نقبل بالمحكمة الدولية لأنّها ستبقى على رقابنا كالمقصلة”، وبعدما سمعت هذه المواقف والآراء أدركت أنّني أسير في الاتجاه الصحيح.
وأرى من الواجب هنا الإشادة بلجنة التحقيق الدولية، التي أدّت دورها بمنتهى المهنية، وأشيد بدقة المحكمة الدولية وحرفيتها، وأعتقد أنها ستصل إلى خواتيم سعيدة بإدانة القتلة ومحاسبتهم وردعهم.
لا أنسى تلك الليلة التي زار فيها أحد هؤلاء الضباط منزلي متهماً زملاءه باغتيال الحريري. وأذكر جيدا الليلة التي تلتها حين حضر ضابط آخر ليبرئ نفسه – أيضاً ويتهم البقية
ويضيف الوزير خوجة في مكان آخر من الكتاب: صار واضحاً أن قرار اغتيال الرئيس رفيق الحريري أصدره بشار الأسد ونفذه “حزب الله”، وإيران باركت القرار وباركت التنفيذ، وكانت أهداف الاغتيال واضحة وضوح الشمس: ضرب حلم اللبنانيين بالتحرّر من المحور الإيراني، وضرب نهج المملكة العربية السعودية القائم على ركيزتي الاعتدال والتنمية، وكان الحريري من وجوه هذا النهج. وكسر أهل السنة والجماعة معنوياً وسياسياً.
لم تبد أيّ بوادر تشير إلى أنّ “حزب الله” يريد التفاهم، وسافرت إلى الرياض تلبية لاستدعاء العاهل السعودي، وكان موضوع الاجتماع واحداً: المحكمة الدولية.
وتسربت فكرة المحكمة إلى الساحة اللبنانية فواجهها “حزب الله” بتعطيل الحكومة عبر اعتكاف وزرائه غير مرة، حينها لم يتحمل جنبلاط ما يجري فأطلق صرخته المدوية “تم تفخيخ السيارة التي استهدفت الحريري بسلاح الغدر في الضاحية”، فردّ عليه “حزب الله”: “لو كان الغدر رجلاً فهو وليد جنبلاط”.
وأذكر جيداً لحظة وصول ديتليف ميليس إلى لبنان، المحقق الدولي الأول في جريمة اغتيال الحريري، ثم استقالة القادة الأمنيين المسؤولين سياسياً عن اغتيال الحريري.
ولا أنسى تلك الليلة التي زار فيها أحد هؤلاء الضباط منزلي متهماً زملاءه باغتيال الحريري. وأذكر جيدا الليلة التي تلتها حين حضر ضابط آخر ليبرئ نفسه – أيضاً ويتهم البقية.
***
وفي مكان آخر من الكتاب يذكر الوزير خوجة في كتابه أنّ الملك عبدالله حافظ على المحكمة ومسارها، فبعدما أسقط حزب الله حكومة سعد الحريري، العام 2011، بذريعة ملف مختلق يتعلق بالمحكمة الدولية (سمّاه “شهود الزور”)، أبلغ الملك الرئيس نجيب ميقاتي، من خلال الأمير مقرن بن عبد العزيز، بأن المحكمة الدولية “خط أحمر”.