خلال أيام قليلة تصدر التشكيلات القضائية الثانية منذ انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية. لن تشبه الدفعة الشاملة من المناقلات والتعيينات، التي تصل إلى 300 قاضٍ وتشمل 50 قاضياً جديداً، أيّ تشكيلات أخرى منذ عهد الطائف، في ظل قرار مبدئي بترك الخيار الأول لمجلس القضاء الأعلى في اختيار قضاة “ما بعد الانتفاضة الشعبية”.
ثمّة أمر مستجد لم يألفه القضاة طوال العهود المتعاقبة. منذ يوم الجمعة الماضي يتم استدعاء قضاة أمام أعضاء مجلس القضاء الأعلى ضمن إطار التنقيح الأخير للائحة التشكيلات التي أنجزت بشكل شبه كامل إذ يفترض لـ”المقابلات” مع بعض القضاة أن تحسم المفاضلة بين بعض الأسماء. لا يتمّ في هذه المقابلات الأخذ بالجانب القانوني فقط إنما أيضاً تُمتحن شخصية القاضي وكفاءته و”حكمته” من خلال بعض الأسئلة الحرجة المُحرجة.
المفارقة أنّ القضاة “يَمثُلون” أمام قضاة مجلس القضاء الأعلى التسعة. أما العضو العاشر فهو القاضي منذر ذبيان، رئيس الهيئة الاتهامية السابق في جبل لبنان، الذي صدر قرار بفصله بتهم فساد في خضمّ معركة الفساد القضائي.
إقرأ أيضاً: شربل الخوري: “الحاكم” يهزّ لنا العصا
ويؤكد مطلعون أنّ مشروع التشكيلات، حتى الآن، لم تخرقه الاملاءات السياسية. يجزم قضاة أنّه للمرة الأولى تقف هذه التدخلات عند عتبة “المجلس”. لا القصر الجمهوري ولا عين التينة ولا رئاسة الحكومة، وصولًا إلى بيت الوسط أو من تعوّد “مدّ اليدّ”، لا أحد منهم يحاول فرض كوتا معينة أو تزكية قضاة. أما وزارة العدل، التي غالباً ما كانت التشكيلات “تتفركش” برغبات وزيرها السياسي أو من يملي عليه “الأوامر”، فموقفها واضح من خلال الوزيرة ماري كلود نجم: “لن أتدخل ولن أسمح لأحد بالتدخل بالتشكيلات”.
رغم ذلك تفيد معلومات أنّ الخلاف على بعض المراكز الحسّاسة لا يزال يستدعي بعض اللقاءات بين قضاة كبار ورئيس الجمهورية ميشال عون الذي يؤكد قريبون منه “أنّه كما في التشكيلات الأولى في عهده، لم يطلب تزكية أيّ قاض في أيّ موقع، واليوم يفعل المثل”، مراهنًا على “قدرة مجلس القضاء الأعلى ورئيسه على الخروج بتشكيلات نظيفة “سيبصم” عليها مجلس الوزراء”.
أما الرئيس نبيه بري فقد صارح قاضياً كبيراً مؤخرًا: “طالما لا محسوبيات لا تنتظروا مني أن أطلب طلباً واحداً. المهم ألا يؤدي ثبات بعض القضاة في مواقعهم و”تشكيل” آخرين من مواقعهم، خصوصاً على مستوى النيابات العامة، إلى تصوير الأمر كما لو أنّ هناك قاضياً جيداً وقاضياً آخر غير جدير بالمسؤولية”.
وعلى هامش ورشة التشكيلات سجّل تحرّك قضاة متضرّرين من تسريبات طالت أسماء قضاة مشهود بكفاءتهم، وذلك من خلال استغلال منابر إعلامية لشنّ معركة مضادة غير ذكية ضدّ هؤلاء القضاة بالاسم. ما كشف تلقائياً الجهات المتضرّرة، ربطاً بالمراكز القضائية التي تستهدفها في الاعلام والقضاة المرشّحين لتسلّمها.
منذ البداية طُرحت المعايير التي سيستند إليها مجلس القضاء لاختيار مجموعة القضاة في ظل ما يشبه استسلام السياسيين لشرط فرضه الشارع قبل أي طرف آخر، وإن لاحت في الأفق “نوبات” سياسية كتلك التي دفعت الرئيس نبيه بري إلى المجاهرة بالقول: “بقاء مدعي عام جبل لبنان القاضية غادة عون في موقعها سيفرض بقاء النائب العام الاستئنافي في الجنوب القاضي رهيف رمضان في موقعه”.
يجزم مطلعون أنّ عون ترفض أيضاً تعيينها مستشارة في محكمة التمييز كمرحلة مؤقتة، ريثما تعيّن لاحقاً رئيسة لمحكمة التمييز
في الوقائع، الاثنان لن يبقيا في موقعيهما، خصوصًا مع اتجاه مجلس القضاء الأعلى إلى تعيين القاضي إيلي الحلو مكان عون. الأخيرة، وفق المعلومات، ترغب في البقاء في مكانها، على اعتبار أنّ ذلك يمثّل “شهادة” لها في القضاء والسياسة، بأنها “لعبت” دورها المطلوب والسليم في معركة مكافحة الفساد. أو ترغب في تعيينها مكان رئيس التفتيش المركزي القاضي جورج عطية الذي فقد الغطاء العوني باكراً جداً.
لكن يبدو أنّ أيّ عهد، مهما كان “قوياً” لن يتمكن من فرض استمرار عون في موقعها. فقد حَسَم “المجلس” كلمته في الموضوع. وهنا، يقول قضاة، “ليس لأنّ غادة عون فاسدة، بل لأنّها افتقرت في كثير من الأحيان إلى الحكمة وحسن إدارة أحد أكثر المواقع القضائية حساسية ومسؤولية، بسبب تماسها مع السياسة، ولأنها شكّلت “وجعة رأس” لكثير من المحامين والقضاة، وعلى رأسهم مدعي عام التمييز غسان عويدات الذي أصدر بحقها عقوبات مسلكية بعد اصطادمه بتجاوزها للقوانين و”تفلّتها” غير المبرّر عبر ممارسات، لو قام بها قضاة آخرون، لكان سيؤدي ذلك إلى إحالتهم أمام التفتيش القضائي ومحاسبتهم”.
ويجزم مطلعون أنّ عون ترفض أيضاً تعيينها مستشارة في محكمة التمييز كمرحلة مؤقتة، ريثما تعيّن لاحقاً رئيسة لمحكمة التمييز، على اعتبار أنّ رئيس المحكمة حالياً القاضي كلود كرم يُحال إلى التقاعد بعد نحو شهرين.
ويبدو حتى الآن أنّ المعايير التي وضعها مجلس القضاء الأعلى قد تمّ الالتزام بها بنسبة كبيرة جداً إذ تمّ الأخذ بمعيار الكفاءة وحسن السيرة والنزاهة، كما استبعدت التشكيلات أي قاض تحوم حوله الشبهات أو أحيل سابقاً إلى المجلس التأديبي أو التفتيش القضائي أو “كُسِرت” درجاته خلافاً لما كان يجري سابقاً. وعند التساوي بالتقييم في ما يخصّ بعض القضاة، فإنّ الدرجات هي التي تحسم. ويبدو الأمر منطقياً، فرئيس مجلس القضاء الأعلى نفسه، القاضي سهيل عبود، تمّت الإطاحة عند تعيينه بأكثر من عشر قضاة، ما يعني أنّ الدرجات ليست هي المعيار الحاسم فقط، بل أيضاً الكفاءة والتيقّن من قدرة بعض القضاة على شغل بعض المواقع خصوصاً الحسّاسة منها، كقضاة النيابات العامة وقضاة محاكم التمييز ورؤساء محاكم الجنايات والهيئات الاتهامية وقضاة التحقيق الأول… وفيما تشهد التشكيلات وضع اللمسات الأخيرة عليها فإنّها تنتظر عودة رئيس التفتيش القضائي القاضي بركان سعد من السفر لتنقيحها بشكل نهائي تمهيداً لرفعها إلى وزيرة العدل.
وفق المعلومات، لا تصويت داخل مجلس القضاء الأعلى بل محاولة لبتّ كافة الأسماء بالإجماع أو شبه الإجماع
وفيما قيل الكثير عن الدور الذي يمكن أن يلعبه مدعي عام التمييز نائب رئيس مجلس القضاء الأعلى غسان عويدات في اختيار “أذرعه” في النيابات العامة، فإنّ مطلعين يؤكدون وجود ما يشبه التكامل بين الطرفين، وأنّه حصل توافق منذ البداية بين القاضيين عبود وعويدات على أن يكون للأخير حقّ الفيتو في ما يتعلق بقضاة النيابة العامة الذين يفترض أن يكونوا فريقاً متجانساً يعمل تحت سلطة النائب العام التمييزي.
وكانت وجهة نظر عويدات واضحة في هذا السياق: “إختيار مجلس القضاء الأعلى حصراً لأي نائب عام استئنافي سيقود لاحقاً، وإن لم يكن نتاج خيار مدّعي عام التمييز، إلى مساءلة الأخير، كون القاضي هو أحد مساعديه في النيابات العامة، وبالتالي التسمية يجب أن تكون مشتركة في هذا السياق من خلال حق الفيتو”.
وفق المعلومات، لا تصويت داخل مجلس القضاء الأعلى بل محاولة لبتّ كافة الأسماء بالإجماع أو شبه الإجماع. وفيما سيطال التغيير حكماً قضاة النيابات العامة في الجنوب وجبل لبنان وبيروت ومفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية، فإنّ مدعي عام الشمال القاضي نبيل وهبي ومدّعي عام البقاع القاضي منيف بركات، قد يبقيان في موقعيهما. إذ سيُحال الأول إلى التقاعد بعد نحو سنتين والثاني لا توجّه على ما يبدو لنقله من مركزه.