وفق البنك الدولي، ما يقارب 80% من سكّان لبنان يعيشون تحت خطّ الفقر! معركتنا ضدّ الفقر وتداعياته هي المعركة الوحيدة الجامعة لكلّ مكوّنات المجتمع اللبناني.
السرطان مدمّر، لكنّ معركته غالباً ما تكون شخصية. يقتصر على الفرد. ومع الكشف المبكر، يمكن علاجه في كثير من الأحيان. لكنّ الفقر؟ الفقر هو سرطان مجتمعيّ ينتشر على نطاق واسع، ويمسّ عائلات ومجتمعات وأمماً بأكملها. على عكس السرطان، لا يصيب الفقر شخصاً واحداً فقط. يمدّ يده، ويسحب الآباء والأطفال والجيران حتى المارّة المهتمّين (بالمساعدة) إلى قبضته التي لا هوادة فيها.
يعمل فقر الأجيال كمرض وراثي لا ينتقل من خلال الجينات لكن من خلال التفاوتات الجهازيّة. لا يرث الطفل المولود في فقر الصراعات الماليّة فحسب، بل يرث وصولاً محدوداً إلى التعليم والرعاية الصحّية والفرص. في حين أنّ آثار السرطان موضعية، فإنّ الفقر معدٍ. إنّه يصيب أولئك الذين يهتمّون، والذين يتشاركون، والذين يسعون جاهدين للارتقاء وتوسيع الموارد بشكل ضعيف وترسيخ أنفسهم بشكل أعمق في نسيج المجتمع.
المفارقة القاسية
يتمّ اكتشاف الفقر دائماً في وقت مبكر. تظهر أعراضه، الجوع والتشرّد ونقص التعليم، بشكل صارخ. ومع ذلك، على عكس السرطان، نادراً ما يتمّ علاجه بشكل فعّال. علاج الفقر ليس في المختبر. إنّه في إصلاح السياسات والتوزيع العادل للموارد، وفي العمل الجماعي، وفي اختيار رؤية تقوم على أنّ كلّ إنسان يستحقّ الفرصة والكرامة.
يجب أن نعطي الأولوية للقضاء على الفقر. في حين أنّ مكافحة السرطان لا تزال حرجة، يعاني الملايين يوميّاً من الثقل الساحق للفقر، وهي حالة أكثر انتشاراً وخبثاً واستدامة. إنّ المجتمع الذي يستطيع علاج السرطان، لكنّه يترك أطفاله جائعين، وعمّاله مستغلّين، ومجتمعاته تعاني من نقص الموارد، هو مجتمع فقد بوصلته الأخلاقية.
حان الوقت لتحويل التركيز. دعونا نضع الفقر في مرمى النيران، لأنّ العالم الذي يزدهر فيه الفقر هو عالم يموت فيه الأمل والكرامة والفرصة. انضمّ إلى الكفاح من أجل القضاء على الفقر لأنّ هذه معركة لنا جميعاً.
يعمل فقر الأجيال كمرض وراثي لا ينتقل من خلال الجينات لكن من خلال التفاوتات الجهازيّة
في الأعياد، وقت العطاء والأمل والوحدة، يجدر السؤال: لماذا فشل العالم، مراراً وتكراراً، في علاج المرض الأكثر ثباتاً ووضوحاً على الإطلاق، الفقر؟
تاريخ من الفرص الضّائعة
كانت الجهود المبذولة للقضاء على الفقر محفوفة بالإخفاقات المنهجية، وغالباً ما أدّت إلى تفاقم الصراعات ذاتها التي سعت إلى التخفيف من حدّتها. ومن بين هذه الإخفاقات حقيقة قاتمة: الفقر وعدم المساواة يضيئان في كثير من الأحيان الأساس للحروب الأهليّة والصراعات، التي تغذّي الكثير منها أغنى الدول. وعلى مرّ التاريخ، كانت الجهود المبذولة للقضاء على الفقر غير كافية أو سيّئة التنفيذ:
– الحرب على الفقر (1964): أعلن الرئيس ليندون جونسون عن هذه المبادرة الطموحة في الولايات المتحدة. تمّ تقديم برامج مثل الرعاية الطبّية والمساعدة الغذائية. وفي حين ساعد ذلك الملايين، ظلّ الفقر المنهجيّ راسخاً بسبب عدم المساواة في توزيع الثروة وعدم كفاية الإصلاح.
– السياسات الاقتصادية العالمية: لقد جلبت عقود من العولمة وإصلاحات السوق الحرّة الثروة للبعض، لكنّها تركت أفقر البلدان في دوّامة ديون ساحقة. فرضت مؤسّسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تدابير تقشّفية أدّت في كثير من الأحيان إلى تعميق الفقر بدلاً من التخفيف منه.
– الحروب الأهليّة والفقر: الفقر يخلق اليأس، ويعزّز الظروف المهيّأة للصراع. غالباً ما تنقسم المجتمعات التي تكافح من أجل البقاء على أسس عرقية أو دينية أو سياسية، وهو ما يجعلها عرضة للتلاعب من قبل أولئك الذين يسعون إلى السلطة. تندلع الحروب الأهليّة فيزيد تدمير السكّان الفقراء بالفعل. ومن جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى اليمن، يشكّل الفقر سبباً جذرياً لهذه الصراعات ونتيجة لها.
قد يثير فينا هذا العام تصميماً على إبعاد الفقر، ليس بصدقة عابرة، لكن بالحبّ والعمل الدائمين
– دور الدول الغنيّة: يتمّ تمويل العديد من الحروب الأهلية بشكل غير مباشر من قبل الدول القويّة، الحريصة على حماية مصالحها في الموارد الطبيعية أو الهيمنة الجيوسياسية. وتؤجّج مبيعات الأسلحة، التي غالباً ما تكون وجهتها المناطق غير المستقرّة، الصراعات التي طال أمدها، بينما تتدفّق الأرباح إلى أغنى الاقتصادات. على سبيل المثال، غالباً ما ترتبط الحروب في الدول الإفريقية، الغنيّة بالموارد، بالمصالح الدولية في المعادن مثل الألماس والذهب والموارد الطبيعية (Natural Resources) النادرة.
– دورة الفقر والصراع: ما إن تنزلق الأمّة إلى الحرب يزداد الفقر عمقاً. يتمّ تدمير البنية التحتية، وتوقّف التعليم، وانهيار الرعاية الصحّية، وتضيع أجيال بأكملها بسبب العنف والنزوح. وتستنزف هذه الصراعات أموال المساعدات من مشاريع التنمية الطويلة الأجل لمعالجة الأزمات المباشرة، وهو ما يترك الفقر المنهجي دون معالجة.
– مساعدات التنمية: في حين يتمّ إنفاق المليارات على المساعدات الدولية، فإنّ الكثير منها يفشل في الوصول إلى المحتاجين بسبب الفساد والبيروقراطية والتركيز على الإغاثة المؤقّتة بدلاً من التنمية المستدامة.
استغلال الفقر
يبيّن لنا التاريخ أنّ الفقر لا يهمل فحسب، بل يتمّ استغلاله. تستفيد الدول الغنيّة من الصراعات التي تدمّر أفقر المجتمعات في العالم، تماماً كما أنّ إهمال العلاج المبكر يمكن أن يسمح للسرطان بالانتشار من دون رادع.
هذا الاستغلال يحوّل الفقر إلى حلقة مفرغة، حلقة يدفع فيها الضعفاء الثمن الأكبر لجشع ولامبالاة الأقوياء. تكشف إخفاقات هذه الجهود عن شيء واحد: علاج الفقر يتطلّب أكثر من أعمال خيرية أو تصحيحات سياسية. يتطلّب تغييراً منهجيّاً. ومع ذلك، لا يزال الفقر مستمرّاً عاماً بعد عام، وغالباً ما يتمّ اكتشافه وتجاهله دائماً، على عكس السرطان الذي يقابل بالإلحاح والموارد.
تستفيد الدول الغنيّة من الصراعات التي تدمّر أفقر المجتمعات في العالم، تماماً كما أنّ إهمال العلاج المبكر يمكن أن يسمح للسرطان بالانتشار من دون رادع
الأعياد هي مناسبات الأمل والنور والتحوّل. نحتفل بولادة طفل في مذود، طفل يولد في فقر، لكن مقدّر له أن يجلب الأمل للعالم. قصّته هي تذكير بمرونة الروح البشرية والدعوة لخدمة الفئات الأكثر ضعفاً بيننا. ومع ذلك، في عام 2024، عاش أكثر من 9% من سكّان العالم على أقلّ من 2.15 دولار في اليوم. استيقظ ملايين الأطفال صباح عيد الميلاد هذا بدون طعام أو مأوى أو وعد بغد أفضل:
– لا تستطيع الأمّ العازبة في مجتمع ريفي تحمّل تكاليف رعاية الأطفال، وهو ما يمنعها من العمل لانتشال أسرتها من الفقر. يواجه أطفالها بدورهم فرصاً تعليمية محدودة واحتمال استمرار الدورة.
– في المناطق الحضرية، يحبس فقر الأجيال العائلات في الأحياء ذات المدارس الفاشلة، والظروف المعيشية غير الآمنة، والوصول المحدود إلى الرعاية الصحّية، وهو نمط يتكرّر لعقود.
– في جميع أنحاء الدول النامية، يغذّي الفقر أزمات في الرعاية الصحّية، وهو ما يترك المجتمعات عرضة للأمراض التي يمكن الوقاية منها. على الرغم من التقدّم العلمي، يموت الملايين لأنّهم لا يستطيعون تحمّل تكاليف العلاج لظروف يديمها الفقر.
المطلوب تغيير دائم
إذا تمكّنّا من التوحّد ضدّ السرطان، وهو مرض يمسّ عدداً قليلاً نسبياً، فلماذا لا يمكننا الاحتشاد حقّاً وبشكل فعّال ضدّ الفقر، الذي يؤثّر على المليارات؟ الأعياد هي وقت الكرم، لكنّ الكرم الحقيقي يكمن في إحداث تغيير دائم:
– استثمر الوقت والجهود للتعرّف على الأسباب المنهجية للفقر في مجتمعك والعالم.
– الضغط من أجل سياسات تعالج الأسباب الجذرية للفقر، الإسكان الميسور التكلفة والأجور العادلة والوصول إلى التعليم والرعاية الصحّية.
– دعم المنظّمات التي تعطي الأولوية للحلول الطويلة الأجل والمستدامة على الإغاثة القصيرة الأجل.
في أعياد هذا العام، دعونا نتعامل مع الفقر على أنّه الأزمة الملحّة. دعونا نعطِ هديّة الكرامة والفرصة والأمل، ليس فقط ليوم واحد أو كشوف مرتّبات واحدة، لكن للأجيال المقبلة.
الفقر يخلق اليأس، ويعزّز الظروف المهيّأة للصراع
الفقر، على عكس السرطان، لا يقتصر على شخص واحد. إنّه يتحرّك كظلّ عبر العائلات، وينشر اليأس، ويمسّ مجتمعات بأكملها، ويسرق الفرح والكرامة. لكنّ عيد الميلاد يذكّرنا بحقيقة أكثر إشراقاً: يضيء النور أكثر سطوعاً في الظلام، وينمو الرجاء حيث تتجذّر المحبّة.
في هذه الأعياد، بينما نجتمع مع أحبّائنا، دعونا نتذكّر أولئك الذين ليس لديهم الكثير للاحتفال به. دعونا نفتح قلوبنا على روح الأعياد الحقيقية، روح العطاء والرحمة والإيمان بأنّه لا يوجد تحدٍّ كبير جداً عندما نقف معاً. تماماً كما بدأت قصّة عيد الميلاد بعائلة متواضعة تبحث عن مأوى، دعونا نخلق عالماً يستيقظ فيه كلّ طفل على الدفء والفرصة والوعد بغد أفضل.
إقرأ أيضاً: جردة مالية لـ2024: استقرار نقدي… وفشل سياسي – اقتصادي
أعياد سعيدة للجميع، وقد يثير فينا هذا العام تصميماً على إبعاد الفقر، ليس بصدقة عابرة، لكن بالحبّ والعمل الدائمين. معاً، يمكننا أن نكون المعجزة التي يصلّي من أجلها شخص ما.
* باحث في الشؤون الاقتصادية والنقدية.