السّعوديّة… “احتضان” اللّحظة السّوريّة

مدة القراءة 5 د

كانت لافتةً السرعة التي تفاعلت بها السعودية مع الحدث السوري الكبير. لا تردّد، لا تحفّظ، لا تريّث، ولا وقت للتأمّل والانتظار. بعد ساعات من إعلان سقوط النظام السوري السابق وهروب رئيسه، في 8 كانون الأول الماضي، أصدرت وزارة الخارجية السعودية، في ذلك اليوم التاريخي بالذات، بياناً واضح المفردات، حاسم الموقف. أعلنت المملكة احترامها لخيار الشعب السوري، معتبرة أنّه آن الأوان لينعم بالحياة الكريمة التي يستحقّها، معربة عن “ارتياحها” للإجراءات التي اتُّخذت لضمان سلامته وحقن الدماء والحفاظ على مؤسّسات الدولة السورية. وقفت بقيّة عواصم الدنيا مذهولة أمام حدث دمشق وبيان الرياض.

 

لا تفصح مصادر السعودية عن المعطيات التي كانت تمتلكها ودفعت بالرياض لاتّخاذ موقف يكاد يكون، منذ اللحظات الأولى لحدث التحوّل السوري الكبير، حاضناً ومواكباً. وإذا ما عجز المحلّلون عن العثور على لغط ما بين السطور، وتوسّل آخرون مصادفة وجهة نظر أخرى ثنائيّة الأوجه، فإنّ تسونامي الإعلام السعودي، بمراسليه وموفديه ونجومه، صوب دمشق ومناطق سوريا الساخنة، أفصح عن قرار من أعلى المستويات بالحضور المكثّف داخل هذه اللحظة التاريخية النادرة.

المواكبة الحاضنة ليست نقيضاً للحذر والقلق. استنتجت الرياض توجّس بعض العواصم العربية والدولية، وقرأت قلقاً مبرّراً لبعضها. شاركت السعودية مع المجموعة العربية في اجتماع العقبة، في 14 كانون الأول الماضي، في التعبير عن قلق وإصدار بيان من 17 بنداً يمثّل مطالعة من قواعد وتوصيات وشروط موجّه للإدارة السورية الجديدة. في متن البيان ما كانت أوصت به أيضاً منابر دولية كبرى، الولايات المتحدة والاتّحاد الأوروبي وجها المنظومة الغربية الأطلسيّان، وما صدر بهذا الصدد عن مجلس الأمن الدولي.

لا شيء غامضاً في الشّرع

لا شيء غامضاً في هويّة أحمد الشرع و”هيئة تحرير الشام” التي يقودها. يشغل الرجل وتنظيمه مراتب على لوائح الإرهاب، وهو واقع تعرفه كلّ عواصم الدنيا بما فيها الرياض. أنصتت المملكة إلى خطاب جديد لزعيم هذه “الجماعة” يَعِد بالانتقال من منطق “إدلب” إلى منطق سوريا، ومن حقبة الثورة إلى حقبة الدولة.

المواكبة الحاضنة ليست نقيضاً للحذر والقلق. استنتجت الرياض توجّس بعض العواصم العربية والدولية، وقرأت قلقاً مبرّراً لبعضها

لا شيء غامضاً في ما عرفه العالم خلال 54 عاماً عن نظام عائلة الأسد، الذي خطف البلد نحو أجندات ارتبطت بطهران، فيما خزائن التاريخ تفرّغ كلّ يوم حمولتها الدموية الكئيبة.

لا شيء غامضاً في “لعبة الأمم” التي عبثت بسوريا، وجعلت راهنها ملعباً أساسيّاً ومحوراً مفصليّاً داخل إمبراطورية الوليّ الفقيه في إيران، وطريقها من طهران إلى بيروت ومن طهران إلى قلب الخليج. وفي تلك القراءة أدركت الرياض باكراً ماذا تعنيه اللحظة السوريّة للشرق الأوسط.

قيل إنّ تواصلاً مبكراً جرى منذ الساعات الأولى للحدث بين قائد الإدارة الانتقالية في سوريا، أحمد الشرع، ومسؤولين في الرياض. قيل أيضاً إنّ دبلوماسية تركيّة نشطة كانت دائمة التشاور والتنسيق منذ أشهر مع القيادة السعودية بشأن سوريا، فبدّدت في المملكة أيّة مخاوف مسبقة من لحظة سوريّة كبرى.

الرّياض تلقّفت حجم التّحوّل

بدا أنّ الرياض استنتجت حجم التحوّل الجيوستراتيجي الكبير في كلّ المنطقة، ولم تتأخّر في الإدلاء بدلو يجعله واقعاً ونهائيّاً. طوت الرياض صفحة خمسة عقود من تاريخ سوريا، وعجّلت في فتح صفحة جديدة قرّرت أن تشارك في صنعها وتؤكّد حقيقتها الحتمية.

السعودية

أدرك الشرع وإدارته بدقّة ما الذي يعنيه الموقف السعودي لحراك سوريا. فلا تطوّر نحو الإيجابية والتعاون من قبل الحاضنة العربية الكبرى من دون رعاية الرياض وقيادتها. ولا تغيّر نوعيّاً وجدّياً في موقف المجتمع الدولي من دون أن ترفع الرياض ساتراً حامياً للتحوّل السوري ومظلّة راعية للحدث. أطلق رجل سوريا القويّ رسائل الودّ إلى المملكة مبدياً إعجاباً بنموذج السعودية ورؤيتها في التنمية والاقتصاد، مثنياً على مواقفها الإيجابية تجاه التحوّل في بلده، مبشّراً بخصال ذلك التحوّل في توفير أمن طويل الأمد للمنطقة والخليج.

أحرقت السعودية المراحل. قدّم قائد الإدارة الانتقالية في سوريا مطالعاته “المطلوبة” عربياً ودولياً، من خلال الإعلام السعودي

ظهر أنّ تخاطباً حثيثاً جرى خلف الكواليس بين المملكة والولايات المتحدة بشأن الحدث السوري. وقد لا يكون صدفة أنّ تزامناً جرى بين تواصل واشنطن مع الشرع في 20 كانون الأول عبر وفد زار دمشق برئاسة بربرا ليف، مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، وبين تواصل الرياض معه في 22 من الشهر نفسه بعد 8 أيّام من صدور “دفتر شروط” العقبة، عبر وفد زار العاصمة السورية رأسه مستشار في الديوان الملكي يفصح عن اهتمام من أعلى هيكل الحكم في المملكة.

إحراق المراحل

أحرقت السعودية المراحل. قدّم قائد الإدارة الانتقالية في سوريا مطالعاته “المطلوبة” عربياً ودولياً، من خلال الإعلام السعودي أوّلاً، بعد إطلالات استكشافية أولى من الـCNN الأميركية و الـBBC البريطانية. رفعت المملكة مستوى التواصل إلى مرتبة سياسية، في 30 كانون الأول، بدعوة وجّهها وزير الخارجية فيصل بن فرحان إلى وزير الخارجية في الحكومة السورية الانتقالية أسعد الشيبان لزيارة الرياض.

إقرأ أيضاً: الشّرع: البحث عن نقطة توازن

لبّى الوزير السوري الدعوة على رأس وفد ضمّ وزير الدفاع مرهف أبو قصرة، ورئيس جهاز الاستخبارات العامة أنس خطاب، في أوّل يوم من هذا العام. أطلق من العاصمة السعودية جرعة جديدة تطمئن العالم والسوريين بحكم تمثيلي متعدّد شامل، وتطمئن العالم العربي بقيم واعدة تستجيب لوصايا العقبة. افتتحت دمشق الجديدة وجهتها الخارجية الأولى في الرياض. ومن بوّابة العاصمة السعودية انطلق الوزير ووفده نحو قطر والإمارات والأردن، داخل حاضنة عربية تستعيد سوريا المختطفة منذ عقود.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@mohamadkawas

مواضيع ذات صلة

ترسيم الحدود مع سوريا وتحدّيات القرارين 1680 و1701 (3/1)

بعد إبرام اتّفاق وقف إطلاق النار بين حكومة الرئيس نجيب ميقاتي وحكومة بنيامين نتنياهو، الذي نصّ في بنده الأخير على تسوية نقاط الخلاف بشأن الحدود…

التّاجر السّوريّ الجديد في الخليج العربيّ..

بعد وفاة الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد، اجتمع كلٌّ من الملك عبد الله بن عبد العزيز والرئيس حسني مبارك بالدكتور بشار الأسد في دمشق، وقال…

إعفوا عن السُّنّة كي يعفوا عنكم

ليست مصادفه أن يكون مطلب سُنَّة العراق اليوم إقرار قانون العفو العامّ متوازياً مع مطلب سُنّة لبنان إقرار قانون العفو العامّ أيضاً لإطلاق سراح الموقوفين…

العلاقات اللّبنانيّة – السّوريّة… مشقّة التاريخ والجغرافيا

لا ينفك لبنان يتحمّل مشقّة الجغرافيا. هي المشقّة لوجوده بين دولتين: إسرائيل التي لا يعترف بها، وسوريا التي لا تعترف به وطناً مستقلّاً، حتى عام…