الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف وجهه للإعلام، والأرجح أنّه هو من رعى عمليّة التحوّل الكبير لذلك الرجل النحيف، من قائد في “القاعدة” يرتدي عمامة سوداء إلى حاكم فعليّ لسوريا بربطة عنق.
ليست سوريا في المخيال التركي بلداً جاراً وحسب. إنّها مفتاح تحوّل دولة العثمانيين إلى إمبراطورية، حين دخلها السلطان سليم الأوّل إثر معركة “مرج دابق” قرب حلب عام 1516. ولذلك العودة إلى دمشق تمثّل رمزيّاً إعادة الاعتبار بعد مئة عام من خسارة الحرب العالمية الأولى. لكنّ السؤال: هل تعود إليها كما دخلتها بعد معركة “مرج دابق”؟ أم تمهّد لشبكة تواصل إقليمي بحيث تكون سوريا الممرّ الطبيعي لـ”سكّة الحجاز” الجديدة التي تربط الخليج بتركيا، على غرار تلك السكّة التي أنشأتها السلطنة العثمانية في سنواتها الأخيرة؟
صعود نجم فيدان
سيلتقط الرئيس التركي رجب طيب إردوغان اللحظة التاريخية بزيارة لدمشق وصلاة في المسجد الأمويّ وزيارة لقبر صلاح الدين الأيّوبي، تنفيذاً لعهد قديم. لكنّ الحدث السوري ليس حدثه هو، بل النقطة الفارقة في صعود نجم فيدان كخليفة محتمل للحاكم الأوحد لتركيا منذ زهاء ربع قرن.
في تركيا من يرى في سقوط نظام الأسد نجاحاً شخصياً لفيدان بين الأمن والدبلوماسية. فالرجل الذي جلس على رأس الاستخبارات التركية ثلاثة عشر عاماً، يُنسب إليه نسج الاستراتيجية التركية في سوريا منذ سنوات طويلة. وإن تكن تلك الاستراتيجية قد واجهت سنوات من الضعف الشديد في ذروة الاندفاعة الروسية – الإيرانية بين عامي 2015 و2018، إلا أنّها أعادت ترتيب أوراقها بعمليّتي “غصن الزيتون” عام 2018 و”نبع السلام” في العام التالي.
العرب في منزلةٍ بين المراقبة الحذرة والقناعة بالحاجة إلى سوريا مستقرّة
تلك العمليّتان حاكهما فيدان بمبضع الجرّاح، بين الوجودين الأميركي والروسي في المنطقة، ليقتطع منطقتَيْ سيطرة شبه مباشرة، من خلال ما سُمّي “الجيش الوطني السوري”، إحداهما في جرابلس وعفرين، والثانية في شريط حدودي يمتدّ شمال خطّ M4، في محافظتَي الحسكة والرقّة.
الاستثمار في إدارة ملفّ إدلب
إلا أنّ الهندسة الأكثر دقّة هي تلك المتعلّقة بإدارة ملفّ إدلب، بعدما تجمّع فيها ما يقرب من أربعين فصيلاً مختلفاً وديمغرافيا متنوّعة من سكّان المنطقة والنازحين إليها من مختلف المناطق السورية. نقلت الاستخبارات التركية، بقيادة فيدان، تلك المنطقة من حالة الفوضى والقتال إلى شيء من الاستقرار الاقتصادي والإداري، فانضبطت الصراعات بين الفصائل وتوافرت الخدمات الأساسية من كهرباء وماء واتّصالات وصحّة وتعليم، وتوافرت السلع التي يُحرم منها الداخل السوري.
ربّما الاستثمار الأكثر مخاطرة هو المراهنة على إمكانية تحويل قيادي في “القاعدة” ترصد الولايات المتحدة 10 ملايين دولار للوصول إلى رأسه، إلى شخصية تتوافد الوفود الدولية للقائها في قصر الشعب في دمشق، ولو على سبيل التعامل البراغماتي مع الوقائع، وما هو أكبر تفكيك لوجود تنظيم “القاعدة” في الشمال السوري، وإعادة تأهيل فصيله التابع، بعد تغيير اسمه من “جبهة النصرة” إلى “هيئة تحرير الشام”، ليكون رأس الحربة في إسقاط نظامٍ قبض على حكم سوريا لأكثر من نصف قرن.
تطلّب ذلك فتح قنوات تواصل بين الاستخبارات الأميركية والجولاني، أتاحت لهذا الأخير أن يعيد تقديم نفسه وعرض خدماته لتسليم بعض الرؤوس الكبيرة في تنظيم “داعش” للأميركيين.
سوريا اختبار عسير
قد يخالج دخول فيدان الاحتفالي لدمشق في الوجدان التركي ما يشبه “مرج دابق 2″، لكنّ في الأمر استعجالاً. فإدارة الشأن السوري ليست جائزة بقدرِ ما هي اختبار عسير لحدود الإمكانات والقدرات. فهل تستطيع تركيا الإمساك بمفاتيح الحكم في سوريا وحدها، كما زعم الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب؟ وهل تريد ذلك فعلاً؟ وهل تجعلها ساحة للصراع على النفوذ الإقليمي، أم منصّة لصياغة علاقة أمن قومي ومصالح متوازنة مع الدول العربية؟
سوريا ليست ليبيا. فتركيا لا تتحمّل حروباً أخرى بالوكالة في “حديقتها الخلفيّة”
واضح حتى الآن أنّ للأتراك مصلحة في مشاركة عربية فاعلة في توفير مظلّة لبلد مستقرّ أمنيّاً وقادر على النهوض بمتطلّبات إعادة الإعمار واستقبال الملايين من أبنائه اللاجئين، خصوصاً أنّ ملفّ اللجوء يضغط على إردوغان وحزبه في الداخل التركي. ولا شكّ أنّ للعرب مصلحة مماثلة في استقرار سوريا. فلا أحد يريدها أن تعود ساحةً سائبة للميليشيات الإيرانية ومعامل الكبتاغون والتنظيمات الجهادية المتطرّفة.
التّعاون التّركيّ – العربيّ
لكنّ السؤال يبقى عن الأساس الذي يمكن أن يقوم عليه التعاون العربي – التركي في سوريا. لدى العرب هاجسان أساسيّان تجاه المتغيّرات في سوريا:
1- تمثّل سوريا انتصاراً متأخّراً لواحدة من ثورات الربيع العربي بعدما بدا أنّها مرحلة تجاوزتها المنطقة العربية.
2- الهاجس من الإسلام السياسي على اختلاف تلوّناته. فعلى الرغم من كلّ رسائل الطمأنة التي يرسلها الشرع، ليس من السهل على المنظومة العربية والدولية أن تهضم حكم فصيل “إسلامي” لدمشق. وليس أيّ فصيل. إنّه فصيل مسلّح (جهادي) ذو ارتباط سابق بـ”القاعدة”.
يحاول الشرع إعادة تقديم حالته السياسية بتعريف ما لا تمثّله: يقول إنّها ليست صنو “القاعدة”، ولا هي صنو “الإخوان”، وليست تهديداً لأحد في الخارج أو في الداخل، وليست ضدّ الأقلّيات. لكنّه حين يُسأل عن ماهية ما يريده في نظام الحكم وهويّة الدولة والقوانين الاجتماعية، يستعين بالغموض البنّاء، ويحيل الأمر إلى الدستور المقبل الذي هو في علم الغيب.
العرب بين الحذر والمراقبة
لذلك العرب في منزلةٍ بين المراقبة الحذرة والقناعة بالحاجة إلى سوريا مستقرّة.
حلّ الوفد السعودي في دمشق من دون تصوير أو بروتوكول، ليعطي إشارة إلى استعدادٍ للتعاطي العملاني الإيجابي مع الوضع الجديد، لكن من دون تقديم اعتراف غير مشروط. فيما تبقى مصر والإمارات أكثر حذراً.
على الرغم من كلّ رسائل الطمأنة التي يرسلها الشرع، ليس من السهل على المنظومة العربية والدولية أن تهضم حكم فصيل “إسلامي” لدمشق
ليس واضحاً إن كانت تركيا قد تعلّمت الدرس بعد فشل أنماط تدخّلها في دول عربية أخرى، لا سيما في مصر، حيث دعمت حكم “الإخوان المسلمين”، واستمرّت في دعمهم بعد إزالة حكمهم. إلّا أنّها سلكت في العامين الماضيين سلوكاً مختلفاً تجاه القاهرة أتاح تطبيع العلاقات معها. إذ تخلّت عن استضافة كوادر “الإخوان” لديها، وأغلقت منصّاتهم الإعلامية. والمثال الليبي أيضاً حاضر. إذ انخرطت تركيا في حرب بالوكالة هناك واجهت فيها المصالح الروسية والمصرية بشكل مباشر.
غير أنّ سوريا ليست ليبيا. فتركيا لا تتحمّل حروباً أخرى بالوكالة في “حديقتها الخلفيّة”. ولذلك ما تقوله الآن عن مقاربتها للوضع السوري يشير إلى تقديرها بأنّ الاستقرار وإعادة الإعمار في سوريا لا يمكن أن يتحقّقا من دون شراكة عربية كاملة. وحين سُئل فيدان في مقابلته مع “الجزيرة” الإنكليزية عمّا إذا كانت بلاده تعتبر سوريا جائزتها الكبرى، أجاب بأنّ العبء لا يمكن أن تقوم به دولة واحدة، وسمّى عدداً من الدول التي ينبغي أن يكون لها حضور فاعل، وهي السعودية والإمارات ومصر والأردن وقطر والأردن والعراق. ولم يذكر إيران.
منصّة لشبك المصالح
من الواضح أنّ موقع سوريا وإمكاناتها الكامنة يتيحان لها أن تكون منصّة لشبك المصالح الاقتصادية، بحيث تكون الممرّ الطبيعي لـ”سكّة الحجاز” الجديدة التي تربط الخليج بتركيا، على غرار تلك السكّة التي أنشأتها السلطنة العثمانية في سنواتها الأخيرة، ومُحي أثرها بهزيمة الأتراك في الحرب العالمية الأولى.
إقرأ أيضاً: سوريا: حصان الاقتصاد الجديد في الشّرق؟
ربّما وصل هاكان فيدان إلى استنتاج مبكر بأنّ إعادة وصل “سكّة الحجاز” (رمزيّاً) غير ممكن على القواعد العثمانية القديمة، بل لا بدّ أن تتوافر لها أرضيّة ثابتة تحترم الجغرافيا السياسية العربية الجديدة.
لمتابعة الكاتب على X: