اختبر اللبنانيون خيبات كثيرة وتوتّرات أهليّة أكثر. اختبروا مِحناً أكثر، بلغ بعضها حدّ خنق الجماعات الأهلية التي استقوت بالشرق، كما تلك التي استقوت بالغرب. بعضها كان بوجه احتلالٍ ما. غيرها كان ضدّ الذات على مثال “حروب الأخوة” في الضاحية الجنوبية والجنوب، أو على مثال “حرب الإلغاء”.
ذلك الحال كان يُؤجّج نيراناً ملتهبة اشتعلت وأتت على الأهل والبيئة بين المسيحيين وعند الشيعة. حروب أهلية نشبت عند كلّ اللبنانيين وبين كلّ اللبنانيين. كان ينجو منها كلّ من احتكم إلى مقولة الزعيم البيروتيّ الراحل صائب سلام: لا غالب ولا مغلوب.
تكرار شيء من التّاريخ
على مثال سوابق لا حصر لها يتكرّر اليوم شيءٌ من التاريخ بعد “إعلان” إسرائيل وقف إطلاق النار في حربها على “الحزب”، وبعد سقوط نظام البعث الذي امتدّ من عام 1962. فالذين يطالبون “الحزب” بالإقرار بأنّه مهزوم ليسوا منتصرين إلّا على تاريخ آل الأسد: حافظ وبشّار وثالثهم المختفي ماهر.
أمّا “الحزب” المُثابر على “إعلان النصر” بعد خسارة سطّرتها بنود القرار الأممي 1701، وأفقدته حرّية التنقّل بسلاحه في أرجاء البلد، وكذلك سطوته على البلد ومعابرِهِ، فيقول إنّه لا مكان له في لبنان.
كلاهما ينزعان إلى ترشيح البلد لانفجارات خَبِرَهَا في تواريخه الأهلية الكثيرة والمتعدّدة.
الانفجارات التي راجت في سنِي الجمهورية اللبنانية كانت تحصل لحظة الخروج على “شعار” الرئيس صائب سلام: لا غالب ولا مغلوب. جوهر هذه المقولة وجد جذره بتجاوز الانكسارات والانتصارات التي كانت راياتها ترتفع مع أصوات وهتافات “المهزومين” و”المنتصرين”، وهي كثيرة بكثرة الجماعات الأهلية ومشاريع الاستقواء والغلبة التي كانت تزعمها.
الاستراتيجية تضمن حواراً لبنانياً ـ لبنانياً طال زمانه وتحقّق نهايات مضمونة إذا ما تلبنن “الحزب”
الأحزاب بين الاختصام والدّولة
دُعاة “الانتصار” الذين يخاطبون “الحزب” لا يملكون برنامجاً مستقبليّاً للبنان. احتفالاتهم المُوزّعة في المناطق عقب تحرير “هيئة أحرار الشام” لسوريا تشي بأنّ البلد قاب قوسين من ولوج أزمة داخلية، وهي أهليّة بطبيعتها، لأنّ “الانتصار المُدّعى” هو من بيئة أهلية تواجه بيئة أهلية أخرى مُنيت على الأقلّ بوصاية أمنيّة أميركية مباشرة على البلد ستراقب كلّ حركة السلاح في طول البلاد وعرضها. وهذه المراقبة عمادها بصر وبصيرة استخبارات الوصاية العالمية.
صار البلد بحاجة إلى العودة إلى زمن كان يرى فيه إلى الصداقات منجاةً من التهلكة، فيما كان يرى إلى العداوات مدخلاً إلى العزل والتهلكة. المُحتفلون كان الباعث على ابتهاجاتهم سقوط آل الأسد وتحرّر سوريا من حكم حزب البعث العربي الاشتراكي. وهم يرون إلى الخسائر التي تحقّقت عند الفريق الثاني استحالة انتساب البلد إلى المستقبل.
خطاب جعجع لا يبني
المنصّة، التي نصبها حزب “القوات اللبنانية” واعتلاها الدكتور سمير جعجع، قائمة على تواريخ أهلية ولا تصلح لإعادة بناء لبنان. أوحى رئيس الهيئة التنفيذية بأنّه يصوغ المستقبل بينما كان ينتسب إلى الماضي بمحطّاته وبأهلها. حيناً يذهب إلى الرئيس بشير الجميّل وحيناً آخر كان يستحضر الرئيس رفيق الحريري، في حين كلاهما سقط بـ”تآمر ولؤم أسديّ”، لكن لأسباب مختلفة.
أعاد جعجع إلى أذهان سامعيه سنوات اعتقاله في أقبية السجون باليرزة، مُعتبراً أنّها نضال يُحسب على لبنان واللبنانيين. حتى سنوات نضال، لكنّها لا تعني كلّ البلد ومكوّناته، إنّما له ولفريقه السياسي أن يزعمها ويُباهي بها على الآخرين. فعليّاً، الرجل يرأس ويدير أكبر كتلة نيابية في البرلمان، لكنّها جرّاء قانون انتخابي نسبي بصوت تفضيلي واحد عمل “الحزب” على تمريره، فكان أن نجح في اختراق كلّ البيئات، ولم ينجح أيّ مكوّن أو قوّة سياسية في اختراق بيئته وناسه.
كلام الغلبة في سجال قوى لبنانية بعضها لبعض يقفز فوق حقيقة ثابتة، وهي “الاستراتيجية الدفاعية” التي نادى بها الجميع وقَبِل بها الجميع
كان جعجع يدرك شغف “حزبه” ببعث التواريخ قديمها وحديثها، ففعل. صار يُحرّك القوّة في دواخل أعضاء “القوات” على الضدّ من الخوف الذي مكث طويلاً على امتداد سنوات الهيمنة البعثية على لبنان. صاغ خطابه من رحم أحزان “القوات اللبنانية” حزباً وأهلاً. تقليده لـ”البشير” في استمالة المسلمين كان في استذكار أئمّتهم من مثل المفتي الشيخ حسن خالد والدكتور صبحي الصالح. هكذا عمد إلى العبث بالمسارات.
تمترس “الحزب” وراء “النّصر”
يُقابل “الحزب” من على منصّات ومنابر أخرى المحتفلين بغلبة إسرائيلية وبتكسير أضلع ما اصطُلح على تسميته بـ”محور الممانعة”. في الأصل والأساس، فإنّ “الحزب” وبيئته لا يرون إلى الخسائر إلا دافعاً نحو الأمام. هم لا يحسبون القتلى بل يحصون الأحياء القادرين على تقديم ذواتهم “لاستمرار النهج وتطبيق الوصيّة”، على ما تصدح حسينيّات كثيرة وسيلٌ من التصريحات. بمعنى أنّهم ينتسبون إلى سِيَر أجدادهم في حسابات الربح والخسارة وصناعة الأحواز الدينية ـ المَذهبية.
“الحزب” قَبِل بوصاية أمنيّة أميركية لمراقبة سلاحه. وافق على بقاء القوّات الإسرائيلية لمدّة 60 يوماً مع حرّية حركة تقديرها متروك لتل أبيب. اقتنع مواربةً بمراقبة المعابر بين لبنان وسوريا. سكت عن مراقبة بريطانية للحدود بين الدولتين. أعلن أمينه العامّ الشيخ نعيم قاسم قبول الطائف الذي تحايل منذ عام 1992 عليه، حيناً بعدم تسليم السلاح بذريعة مقاومة إسرائيل، وأحياناً بالالتفاف على نصوصه بثلاثية سمّاها “ذهبية”، ومفادها جيش، شعب، ومقاومة.
رعاية أميركيّة لمفاوضات غير مباشرة إيرانيّة ـ إسرائيليّة
على العموم رضخ “الحزب” لورقة القرار الأممي 1701 ببنودها الـ13 بعد رعاية أميركية لمفاوضات غير مباشرة إيرانية ـ إسرائيلية على لبنان وعلى حسابه. وهذه انطلقت بعد معالجة خشنة وعنيفة من إسرائيل لأماكن وجود “الحزب” وانتشاره وحيازته صواريخ كاسرة للتوازن، على ما سمّاها ولم يطلق منها على تل أبيب إلّا النزر اليسير.
خسر “الحزب” زعمه السياسي لحرب الإسناد الذي كان يقول إنّ وقف إطلاق النار على غزة يعني بالتالي وقف إطلاق النار من لبنان
جاء هذا الرضوخ بعد زيارة الموفد الإيراني علي لاريجاني وإبلاغه الجانب اللبناني أنّ الإدارة الإيرانية والقيادة الإيرانية تريدان تقديم “وردة سياسية” للإدارة الأميركية المقبلة، “وبالتالي من الأفضل القبول” بالاقتراح الأميركي.
ما لا يعترف به “الحزب” ولا بيئته أنّه على هذه القاعدة وبناء على النصيحة الإيرانية للمفاوض اللبناني توجّه آموس هوكستين إلى لبنان وأبلغ الرسميين الذين التقاهم بضرورة تبنّي هذا الطرح الذي يحمله “بما هو تنفيذ حرفيّ لوثيقة الوفاق الوطني وتنفيذ حرفيّ وتدريجيّ لقرارات الشرعية الدولية”، ومعها بند وصاية المراقبة والتدخّل من قبل لجنة دولية، أو تستمرّ هذه الحرب.
على هذا أصبحت هناك أرضية للنقاش بين إسرائيل وإيران. طبعاً رعاية هذا النقاش وهذا الحوار هي رعاية أميركية. لم يظهر أيّ وجود فرنسي أو بريطاني أو عربي إلى جانب الإدارة الأميركية التي صارت ترعى حواراً غير مباشر بين طهران وتل أبيب حول ورقة تعني لبنان.
نهاية الحرب الإسرائيليّة بيقين سياسيّ
الحرب الإسرائيلية وعمليّة “سهام الشمال” انتهت بعد يقين سياسي – إسرائيلي بأنّ “الحزب” عاجز الآن عن تشكيل قوّة عسكرية في لبنان والمنطقة، ومع ثابتة سياسية أيضاً بأنّ هناك وصاية دولية لتنفيذ القرار الأممي 1701 على “الحزب”، وقد رتّب ذلك على الداخل اللبناني النتائج الآتية:
1- “الحزب” الذي بدأ الحرب مساندةً لغزّة تحوّل إلى حال انتظارية لـ”قرار وقف إطلاق النار”، وبالتالي انفصل لبنان عمليّاً عن غزة.
2- خسر “الحزب” زعمه السياسي لحرب الإسناد الذي كان يقول إنّ وقف إطلاق النار على غزة يعني بالتالي وقف إطلاق النار من لبنان. سقط هذا الاعتبار بشكل نهائي، وتحوّل “الحزب” إلى البحث في كيفية “وقف إطلاق النار” على لبنان.
3- “الحزب” الذي كان يقول في بداية حرب المساندة بـ”وحدة الساحات” أصبح يقول: أنا أوافق على أيّ حلّ له علاقة بالوضع الداخلي اللبناني.
4- كان “الحزب” يقول إنّ الكلام للميدان والكلام لموازين القوّة، وصار اليوم يقول لفظيّاً: أنا أشتغل بالسياسة تحت “اتّفاق الطائف”.
الحرب الإسرائيلية وعمليّة “سهام الشمال” انتهت بعد يقين سياسي – إسرائيلي بأنّ “الحزب” عاجز الآن
نهايات مضمونة
كلام الغلبة في سجال قوى لبنانية بعضها لبعض يقفز فوق حقيقة ثابتة، وهي “الاستراتيجية الدفاعية” التي نادى بها الجميع وقَبِل بها الجميع.
هذه العودة إذا ما تحقّقت تمنع أيّ انفجار أهلي لبناني يكون نتاجاً لإصرار فئة على أنّها غالبة مقابل فئة توصف بأنّها مغلوبة فيما هي متمترسة وراء “نصرٍ” غير مرئي ولا ملموس. ذلك أنّ الاستراتيجية تضمن حواراً لبنانياً ـ لبنانياً طال زمانه وتحقّق نهايات مضمونة إذا ما تلبنن “الحزب”.
إقرأ أيضاً: اليوم التّالي عند “الحزب”: عائد إلى جنوب اللّيطاني
قد يُقال إنّ “الحزب” لا يملك مواصفات غيره من القوى والتيارات اللبنانية المُستظلّة لاتفاق الطائف، وهذا صحيح وتتبدّى صحّته مع كلّ مرّة يكرّر فيها إنّه يتبع “الوليّ الفقيه”.
لمتابعة الكاتب على X: