مرّت 14 سنة بالتّمام والكمال عن المرّة الأخيرة التي زُرتُ فيها العاصمة السّوريّة دِمشق، في كانون الأوّل من عام 2010، أي قبل 4 أشهر من اندلاع شرارة الثّورة السّوريّة.
ينبغي الاعترافُ أنّ دِمشقَ مدينةٌ آسرة بكلّ تفاصيلها: تاريخها المُمتدّ لآلاف السّنين، زحمتها، نداءاتُ الباعةِ في أسواقها، بيوتها الشّاميّة القديمة، أو حتّى تلكَ المباني البشعة التي يطغى عليها الذّوق البعثيّ، أحياؤها الشّعبيّة، وكذا الأرستقراطيّة، لهجةُ أهلِها التِي اجتاحَت الوطن العربيّ عبر المُسلسلات السّوريّة. كلّ هذه تجعلُ المرءَ يُدمِنُ حُبّها ويتوقُ لزيارتها من دون أن يُدرِكَ لماذا.
بعدَ انهيار نظام البعثِ وآل الأسد، لم أنتظِر طويلاً حتّى انطلَقتُ نحوَ حاضرة بني أُميّة التي ظلّت خارِجَ نِطاق الثّورة بشكلٍ فعليّ حتّى هرَبَ بشّار الأسد إلى العاصمة الرّوسيّة موسكو.
عندَ نقطة المصنع الحدوديّة مشهدَان مُتناقضان. مشهدٌ عند خطّ السّيرِ المُتّجه من لبنان إلى سوريا، وفيه وجوهٌ مُستبشِرةٌ بسقوط نظام آل الأسد، وسيّاراتٌ مليئة بالأمتِعة تقلّ عائلات ممّن أنهَكَتهم سنوات الغربة.
مشهدٌ مختلفٌ عندَ خطّ السّير المُتّجه من سوريا إلى لبنان. تكفي نظرة سريعة على وجوه المُحتشدين بالآلاف ليتبيّن أنّ جُلَّ هؤلاءِ يهربون من ماضيهم، أو من قلقٍ في نفوسهم على غدهم بعد سقوط نظام البعث. كثيرونَ منهم كانوا عناصر في جيش النّظام أو شرطته أو خَدمَوا في سجونِهِ أو كانوا من عدِيدِ الميليشيات الطّائفيّة التي استعانَ بها بشّار الأسد على شعبه.
تبدأ الرّحلة نحوَ دِمشقَ بعدَ تجاوزِ نقطة العبور اللبنانيّة. وعندَ الوصولِ إلى نقطةِ “جديدة يابوس” السّوريّة مشهدٌ مُختلفٌ جديدٌ لم نألفهُ من قبل. رجالٌ ببزّات غير موحّدة، يحمِلونَ أسلحةً رشّاشة، أكثرهم أطلقَ لحيته، على عكسِ عناصر الأمن السّابقين الذين كانوا يتميّزون بشوارِبهم والنّظارات الشّمسيّة المُقلّدة التي كادت تُصبحُ “علامة تجاريّة” لحزبِ البعثِ ومن ينضوي تحته من جيشٍ وشرطةٍ وأمنٍ.
بعدَ انهيار نظام البعثِ وآل الأسد، لم أنتظِر طويلاً حتّى انطلَقتُ نحوَ حاضرة بني أُميّة التي ظلّت خارِجَ نِطاق الثّورة بشكلٍ فعليّ حتّى هرَبَ بشّار الأسد إلى العاصمة الرّوسيّة موسكو
نحوَ “الشّام”
يستقبلُكَ عناصر “هيئة تحرير الشّام” بابتسامةٍ مُرفقة بـ”السّلام عليكم”. نظرةٌ سريعة على السّيارة ومن فيها. لم نُسأل عن “الهواوي” أو “شو عندكم بالشّام شباب”. ولم يُطلَب من أحدِنا أن يُراجع “الجوّيّة” أو “الأمن السّياسيّ” أو “فرع المنطقة 227″ أو الـ”235” (أي فرع فلسطين) أو “المخابرات العسكريّة”، وغيرها من فروع “التّرهيبِ والتأديبِ” التي برَعَ بتأسيسها حافظ الأسد وظلّت تُرعبُ السّوريّين واللبنانيين حتّى الدّقائق الأخيرة من عهدِ نجله بشّار.
ثوانٍ معدودات حتّى أكملنا طريقنا نحوَ دِمشق. حواجِزَ أمنيّة وعسكريّة فارغة من العناصر والآليّاتِ. كُلّ شيءٍ على هذه الحواجز يؤكّدُ أنّ من كانوا يقفون هنا غادروا بسرعةٍ: أوراقٌ مُبعثرةٌ على الأرض، و”كاسة متّة” وإبريقُ شاي وملابس عسكريّة.
على طولِ الطّريقِ تستقبلكَ جداريّاتٌ من سبعينيّاتِ وثمانينيّات القرن الماضي لحافظ الأسد تظهرُ عليها آثار الرّصاصِ الذي أُطلِقَ عليها، في محاولةٍ للانتقامِ من نصفِ قرنٍ من العذاب والقهر. وجداريّاتٌ أخرى لنجله بشّار تعودُ لمطلعِ الألفيّة الثّالثة، تُجسّدُ الصّورة الشّهيرة له بالبزّة العسكريّة والنّظارات الشّمسيّة، قبل أن تمحوها من الذّاكِرةِ الصّورُ المُسرّبة التي عُثِرَ عليها في قصره بعدَ فراره.
ما بين آثار ما تركه عناصر النّظام والحواجز التي يشغلها مُسلّحو المعارضة، تخطفكَ الدّبّابات المُحترقة من طراز T90 وT72 الرّوسيّة الصّنع، ومنظومات الدّفاع الجوّيّ من طراز “بانتسير” المُدمّرة بفعلِ العدوان الإسرائيليّ الذي طالَ ما خلّفه جيش النّظام من أسلحة ومخازنَ ودفاعات.
بعدَ نصفِ ساعةٍ بالتّمام والكمال، تدخلُ دِمشق من جهة “المزّة”، المنطقة الرّاقية التي ارتبطَ اسمها بواحدٍ من أبشعِ سجونِ العاصمة “سجن المزّة”. إلى جانبِ منطقة “كفرسوسة” تضمّ هذه المنطقة ما يُعرَف بـ”المُربّع الأمنيّ” الذي يتألّف من قيادة الأركان وأفرع المخابرات والجمارك والأمن العسكريّ والأمن السّياسيّ و”مطار المزّة العسكريّ” والأفرع ذات الأرقام المُختلفة (227، 215، و234 وغيرها) والسّفارة الإيرانيّة.
ما بين آثار ما تركه عناصر النّظام والحواجز التي يشغلها مُسلّحو المعارضة، تخطفكَ الدّبّابات المُحترقة من طراز T90 وT72 الرّوسيّة الصّنع، ومنظومات الدّفاع الجوّيّ من طراز “بانتسير” المُدمّرة
إنتَ سوريّ حُرّ
على بُعد دقائق قليلة من المُربّع الإجراميّ ينقلبُ المشهدُ رأساً على عقب، وتحديداً عند “ساحة الأمويين” التي يُزيّنها مجسّم “السّيف الدّمشقيّ” الشّهير. في تلكَ البقعةِ يتجمّعُ مواطنون يكادون لا يُصدّقون أنّهم يحتفلون بسقوط نظام البعث وآل الأسد.
“إرفع راسك فوق أنت سوريّ حرّ”… هي الأغنية التي تتكرّر طوال النّهارِ منذ ساعات الصّباحِ في “الأمويين” إلى جانب الأغنية الحورانيّة الشّهيرة “مندوسهم مندوسهم بيت الأسد مندوسهم”.
رجالٌ ونساء يرقصون ويهتفونَ وهم يرفعونَ العلمَ السّوريّ الجديد. مشهدٌ يُشبِهُ ما يُسمّى بـ”أحلام العصر”. رجالٌ من هيئة تحرير الشّام بلحاهم الطّويلة وهم ينفخون السّجائر ويتصوّرون مع الأطفالِ والنّساءِ المُحجّبات وغير المُحجّبات.
مُراهقةٌ تستعيرُ بندقيّة “الكلاشنيكوف” من أحدِ رجال الهيئة وترفعها عالياً مع شارة النّصرِ وهي تتوسّطُ رجُليْن من “الهيئة”. رجلٌ يطلبُ من ولدَيْهِ أن يحمِلا العلمَ السّوريّ الجديدَ ويقول لهما: “ارفعوا راسكم بابا هيدا علم بلدكم”. مُراسلون ومُراسلات أجانبَ يُلاحِقونَ رجال “تحرير الشّام” وكأنّهم ينظرون إلى مخلوقٍ فضائيّ هبطَ لتوِّهِ من كوكبِ المرّيخ. امرأةٌ تُوزّعُ الحلوى على المارّةِ وتسألهم الدّعاء أن يعودَ ابنها سالماً بعدما اختفى عقبَ استدعائه لتحقيقٍ لـ”ساعة” منذ 13 عاماً.
“إرفع راسك فوق أنت سوريّ حرّ”… هي الأغنية التي تتكرّر طوال النّهارِ منذ ساعات الصّباحِ في “الأمويين” إلى جانب الأغنية الحورانيّة الشّهيرة “مندوسهم مندوسهم بيت الأسد مندوسهم”.
قلقٌ دمشقيّ
يختلفُ المشهدُ في أحياء “المالكيّ” و”الشّعلان” و”أبو رمّانة”، وهي أحياء “دمشق الأرستقراطيّة”. هناكَ يعلو قلقٌ غير مُعلن وجوهَ الدّمشقيّين من تُجّارٍ ورجالِ أعمال وكبار المُهندسين.
في أحدِ مقاهي شارع “الجاحظ” كانَت محطّةٌ للقاء أشخاصٍ من أهالي هذه الأحياء. لا يزالُ أكثرهم ينتقِدُ النّظام الرّاحل بحذرٍ. قديمةٌ هي العلاقة بين تُجّار دِمشق والنّظام. إذ تعودُ إلى عهدِ الأسد الأب الذي كانَ يحترفُ الصّفقات مع وُجهاء المناطق السّوريّة على اختلاف مصالحهم.
أكثر ما يُقلِقُ “تُجّار الشّام” الخوفُ من المُستقبل. لا يشعرُ هؤلاء بأنّ ما يُشاهدونه في شوارع العاصمةِ من مُسلّحين أغلبهم من مناطق الشّمال السّوريّ يُشبهُ العاصمة. وهذا نموذج عن الصّراع التّاريخيّ بين أهالي المُدن والأرياف. يهمسُ بعضهم أنّه لا ينبغي على “الأدالبة” (أي المُسلّحين القادمين من إدلب) المكوث طويلاً في “الشّام”، وأنّ العاصمة ينبغي أن تعودَ لطبيعتها في أسرعِ وقتٍ ممكن.
أثناء الجولة في “المُهاجرين” يأتي عاملُ قلقٍ آخر بالنّسبة للدّمشقيين. إذ دوّت انفجارات عنيفة من خلفِ جبل “قاسيون” يصحبها هديرٌ مُزعجٌ للطّائرات الحربيّة الإسرائيليّة التي باتت تستبيح الأجواء السّوريّة منذ سقوط الأسد قبل أسبوع. هُنا يقول لي أحد المارّة: “على الرّغم من اعتيادنا أجواء الحرب، إلّا أنّ ما شهدناه من مئات الغارات الإسرائيليّة كانَ أكثر فصول الحربِ رُعباً بالنّسبة لأهالي الشّام”.
إقرأ أيضاً: عندما اكتشفت إيران أنّها “قصر من ورق”
في المنطقة نفسها يختلفُ الوضع عند حلول المساء. فلا تكادُ تجِدُ كُرسيّاً فارغاً في مقاهي ومطاعم المالكي والمهاجرين وشارع “المقاهي”. سيّاراتٌ فارهةٌ وزجاجات كحولٍ على الطّاولات، ونمطُ حياةٍ مسائيّ يختلفُ عمّا شاهدناهُ في باحة مسجد بني أميّة بعدَ صلاة العِشاءِ، حيث يتجمهرُ عشرات الرّجال المُلتحين وهم يرفعون البنادِقَ عالياً وهم يهتفون: “الشّعب يريد إعدامَ الأسد”…
لمتابعة الكاتب على X: