لا يرى المفكّر الروسي ألكسندر دوغين ما جرى في سوريا إلّا من باب مؤامرة معقّدة الحلقات في العالم، هدفها الأوّل إضعاف روسيا ونصب فخاخ للرئيس المنتخب دونالد ترامب. أخطأ الغرب كثيراً عندما اعتبر دوغين “عقل بوتين”، فيما لا يوجد في خطب الرئيس الروسي وتصريحاته أيّ استعارة من أفكاره. والأرجح أنّ دوغين هو أداة من أدوات السلطة وليس ملهمها. في المقابل كان إيفان إيلين، مُنظّر الفاشية الروسيّة، هو المرجع النظريّ الأهمّ لبوتين، الذي استشهد بمقولاته مراراً في خطابه السنوي أمام الجمعية الفدرالية وفي خطابه عن حالة الأمّة.
لا يبدو بالمقابل أنّ فرانسيس فوكوياما، أحد أشهر المفكّرين الأميركيين وصاحب النظريّة الشهيرة حول “نهاية التاريخ”، يرى مؤامرة تحوكها إدارة جو بايدن الحالية ضدّ إدارة ترامب المقبلة. يعتقد أنّ الولايات المتحدة تمرّ حالياً بحالة من عدم اليقين مع انتخاب دونالد ترامب، لأنّه لا يؤمن بالأفكار الليبرالية. وهذا الأمر “سيحدث ضرراً كبيراً للديمقراطية الأميركية”. يلتقي فوكوياما مع القلقين في العالم بشأن ما قد يحدثه ترامب من عبث في سياسة بلاده الخارجية، ومنها ما يتعلّق بالشرق الأوسط ومستقبل سوريا.
قبل أسابيع من سقوط النظام السوري، وبعد أيام من انتخابه رئيساً للولايات المتحدة، نُقل عن ترامب تبرّمه المستمرّ من وجود حوالي ألف جندي أميركي في سوريا، متسائلاً: “ماذا نفعل هناك؟”. وكان، أثناء ولايته الأولى، عبّر، في تشرين الأوّل 2019، عن موقف قال فيه إنّه “حان الوقت لتخرج الولايات المتحدة من الحروب السخيفة التي لا نهاية لها في سوريا”. وكان قبل ذلك، في كانون الأوّل 2018، أمر بسحب القوات الأميركية من هناك، فاستقال وزير دفاعه، جيم ماتيس، ولم يتمّ الانسحاب.
قبل أسابيع من سقوط النظام السوري، وبعد أيام من انتخابه رئيساً للولايات المتحدة، نُقل عن ترامب تبرّمه المستمرّ من وجود حوالي ألف جندي أميركي في سوريا
واشنطن شريكة بإسقاط النّظام
على الرغم ممّا عبّر عنه ترامب إثر اندلاع التطوّرات السوريّة الأخيرة من أنّ “سوريا ليست معركتنا.. فلا تتدخّلوا”، فإنّ الولايات المتحدة بدت (جزءً) جزءاً من عوامل كثيرة أدّت إلى سقوط النظام. فالعقوبات الأميركية، ومنها “قانون قيصر”، قوّض على نحو موجع أعمدة من قوى النظام، فيما تمسّكها بشرط تنفيذ القرار الأممي 2254 لأيّ تطبيع مع دمشق قاد موقفاً جماعياً لم تحِد عنه كلّ المنظومة الغربية.
غير أنّ كشف صحيفة واشنطن بوست عن دعم أوكراني لـ”هيئة تحرير الشام” بالمسيّرات والتدريب، يكشف أيضاً عن ضلوع أميركي في أمر لا تستطيعه كييف من دون موافقة واشنطن.
قد يتحمّل ترامب، وإن لم يقصد ذلك، مسؤولية إطلاق الفصائل لعملياتها العسكرية شمال سوريا من إدلب باتّجاه أرياف حلب. لا نعرف ما إذا كان مخطّطاً للأمر أن يسقط النظام في دمشق أم انزلق نحو أفق لم يكن محسوباً. والأرجَح أنّ تركيا أرادت من خلال غضّ الطرف عن إطلاق هذه العملية ورعايتها من الخلف ترتيب وضع في شمال سوريا يكون أمراً واقعاً أمام إدارة ترامب. فلطالما أبدى الرجل، في ولايته الأولى، تفهّماً لهواجس تركيا وانحيازاً لمطالبها، حتى على حساب حلفاء الولايات المتحدة الأكراد.
لا نعرف ما إذا كان مخطّطاً للأمر أن يسقط النظام في دمشق أم انزلق نحو أفق لم يكن محسوباً
بايدن يستطلع
غير أنّ الوضع في سوريا تغيّر، وهو أمر واقع تاريخي لا يمكن للولايات المتحدة أن تتجاهله أيّاً كان رئيسها. وإذا ما نسي بايدن ذكر اسم سوريا خلال سنوات عهده، فإنّه استيقظ على وجودها بعد سقوط النظام، وأفرد لها خطاباً، وأرسل وزير خارجيّته أنتوني بلينكن إلى المنطقة، مستطلعاً، دافعاً دول المنطقة إلى التموضع إيجابياً لاحتواء الحدث وضبط إيقاعاته.
لن يحيد ترامب عن هذا التوجّه الذي بدا استراتيجيّاً في توجّهات واشنطن الإقليمية والدولية. بل إنّ التطوّر السوري يصبّ في المصالح العليا لبلاده في العالم، ويتقاطع مع ما راح يَعِد به خلال حملته الانتخابية الأخيرة. ويجوز هنا تسليط الضوء على العوامل التالية التي ستدفع ترامب لأن يعتبر الحدث أميركياً يتناقض مع موقف سابق قال فيه: “ليس شأننا”:
- أوّلاً: يُضعف إسقاط النظام في سوريا قوّة إيران في المنطقة بعد خسائر مُنيت بها أوراقها في غزّة ولبنان، وبعد ضربات عسكرية شنّتها إسرائيل داخل الأراضي الإيرانية يتكشّف أنّها كانت بنيوية موجعة. وفيما يلمّح ترامب إلى خيار عسكري محتمل ضد إيران معطوفاً على استعداده لإبرام صفقة معها، فإنّ الحدث السوري يأتي ليرفد أوراق ترامب على طاولة أيّ صفقة عتيدة.
الوضع في سوريا تغيّر، وهو أمر واقع تاريخي لا يمكن للولايات المتحدة أن تتجاهله أيّاً كان رئيسها. وإذا ما نسي بايدن ذكر اسم سوريا خلال سنوات عهده
الحدث يُضعف روسيا
- ثانياً: يُضعف الحدث نفوذ روسيا في سوريا حتى لو توصّلت مع “العهد الجديد” إلى تفاهمات تبقي قواعدها العسكرية في هذا البلد. والأرجح أنّ موسكو لن تجد في “سوريا الجديدة” بيئة حاضنة كانت تمتّعت بها منذ مرحلة الاتحاد السوفيتي. ومن شأن هذا الاختلال في موازين القوى أن يساعد ترامب على إقناع روسيا، من موقع قوّة، بالتوصّل إلى صفقة وعد بها لوقف الحرب في أوكرانيا لا تلبّي، وفق ذلك الاختلال، شروط بوتين وإملاءاته.
- ثالثاً: الواضح أنّ الحدث يشكّل قطيعة عقائدية للنظام السوري الجديد مع سوابق أدرجتها داخل معسكر الشرق أو محور الممانعة. الأمر سيرجّح أن تربط “سوريا الجديدة” بعد تأهيلها اقتصادها بالمنظومة الدولية، وأن ترتبط منظوماتها الدفاعية بالمعسكر الغربي، وهو ما من شأنه أن يغري ترامب بـ”البيزنس” المطلّ من سوريا وتحوّلاتها على خرائط الاصطفافات الدولية.
قويّاً ضدّ الصّين…
- رابعاً: يأتي الحدث السوري ليحمل المياه إلى طاحونة ترامب الذي ما فتئ، منذ ولايته الأولى، يقود حملة لتقويض قوّة الصين اتّساقاً مع توجّه استراتيجي أميركي منذ ولاية باراك أوباما. ومن يريد أن يكون قويّاً ضدّ الصين، عليه أن يكون قويّاً في أوروبا ضدّ روسيا، وقويّاً في الشرق، وفي سوريا بالذات بصفتها مكان تحوّل على حساب تحالف الصين وروسيا وإيران.
- خامساً: أهملت واشنطن “المسألة السورية” واعتبرتها دائماً “ملفّاً إسرائيلياً”، غير أنّ ترامب، حتى في ما وعد به من حلّ لـ”قضيّة الشرق الأوسط”، حسب تصريحاته في حديثه عن القضية الفلسطينية، يستنتج أنّ سوريا لم تعد فقط شأناً إسرائيلياً. بل باتت، وفق تحرّك إدارة بايدن التي تنسّق مع إدارته، شأناً أميركياً بامتياز تعيد خلط أوراق الولايات المتحدة في العالم، وترتيبها وفق ما يصبو إليه ترامب من طموحات في الشرق الأوسط.
إقرأ أيضاً: دمشق: الانفتاح العربيّ على إيقاع أميركا وتركيا
يقرأ ترامب جيّداً “زلزال” سوريا. ولا شكّ أنّه نادم على تقويمه حين اعتبر صراعها “من الحروب السخيفة التي لا نهاية لها”. بدا أنّ سوريا أنهت حرباً. أسقطت نظاماً. وأيقظت واشنطن، من بايدن إلى ترامب، على حسابات جديدة.
لمتابعة الكاتب على X: