عام 2017 وصل قاسم سليماني إلى الحدود السورية العراقية قادماً من البادية على رأس لواء “فاطميون”، ثمّ أدّى الصلاة إماماً في منطقة التنف. وصار مذّاك القائد الفعليّ لأربع عواصم عربية، وهي العواصم التي تباهت طهران بالسيطرة عليها، عبر تصريح رسمي لوزير الاستخبارات في حكومة أحمدي نجاد عام 2015. فكيف سقطت تلك الرباعية في موجة واحدة؟
بدأت الرحلة في حرب تموز عام 2006، وتحديداً من الصورة الشهيرة التي جمعت سليماني مع السيّد حسن نصرالله وقائد “الحزب” العسكري عماد مغنية، وقد بدا أنّ الصورة ملتقطة من اجتماع عسكري لمواكبة الحرب، ونُشرت عقب اغتيال مغنية في دمشق، لتكون الدليل الأبرز على مشاركة سليماني وحضوره شخصياً في كلّ مفاصل المعارك، عسكرية كانت أم سياسية.
ما إن وضعت الحرب أوزارها، حتى استدار “الحزب” إلى الداخل اللبناني، حيث تبلورت الرغبة في تقريش الانتصار محليّاً، مع ما يعنيه ذلك من سيطرة مطلقة على كامل القرار السياسي والعسكري والأمنيّ. وهذا تماماً ما حدث بعد موجة طويلة من الاغتيالات والاشتباكات والمواجهات العنيفة، انتهت جميعها بقبْض “الحزب” على رقبة الدولة بلا شريك أو منازع.
سقطت بيروت في الحضن الإيراني بالتوازي مع عمليّات ممنهجة للإجهاز تماماً على بغداد، ثمّ ما إن اشتعل الربيع العربي حتى بدأ سليماني وأذرعه العسكرية في المنطقة بإحكام السيطرة الكاملة على صنعاء ودمشق. وهذا ما صارت إليه الأحداث والتطوّرات، وسال دم غزير على مساحة المنطقة برمّتها، ولامس الخطاب المذهبي أعلى مستوياته على الإطلاق، وتمّ إنجاز أكبر “ترانسفير” طائفي عرفه الكون منذ نشأته. وقد كنّا نظنّ أنّ مجرّد الحديث عن تهجير سنّة سوريا من مدنها وحواضرها وعواصمها هو وهمٌ من الخيال أو ضربٌ من الجنون.
ارتبكت إيران وارتبك المحور برمّته، ثمّ جاءت القشّة التي قصمت ظهر البعير: اغتيال الأمين العامّ لـ”الحزب”
وحدة السّاحات
هتك النظام الإيراني كلّ الأنسجة الاجتماعية في المنطقة، وحوّل عواصم الخلافة الإسلامية إلى امتداد طبيعي لثورة إيرانية مترامية الأطراف. وقد ظلّ سليماني يتجوّل بين العواصم الأربع كحاكم بأمره، لا جيش يعلو سلطانه ولا دولة ولا مؤسّسات. كان يجتاح الخرائط ويبعثرها بلا حسيب أو رقيب، بعدما أنهكها وأتعبها وأوغل عميقاً في إخضاعها وترويضها، عبر أعنف الأيديولوجيات فتكاً في التاريخ، وأكثرها شراسة وقدرة على السحق بلا هوادة.
كان سليماني يظنّ أنّه محميّ الرأس، وأنّ إسرائيل أو أميركا لن تغامرا بقتله أو استهدافه، لأنّ عواقب حدث مماثل قد تكون زلزالية على طول المحور وعرضه، لا سيما أنّ رباعية العواصم قد استحالت وحدة ساحات. وهو ما يعني أنّ ضربة في مأرب قد يتردّد صداها في الزبداني، كما أنّ خطاباً في ضاحية بيروت قد ترتفع لأجله القبضات في آخر أحياء الأعظمية.
يقول دونالد ترامب إنّ بنيامين نتنياهو انسحب في آخر اللحظات قبل تنفيذ اغتيال سليماني. الأرجح أنّ نتنياهو خاف من العواقب. وظنّ أنّ عملية مماثلة قد تأخذ المنطقة برمّتها إلى فوهة بركان، لكنّ ترامب كان أكثر حماسة وأقلّ خشية من ردّة الفعل، وقد نظر إلى كبير جنرالاته وسأله: هل يُمكننا أن نفعل ذلك؟ نعم سيّدي، أجاب الرجل المرقّط بالنجوم. إذاً دعونا ننفّذ الأمر.
هكذا بهذه البساطة يروي ترامب قصّة قتل سليماني، عبر عملية “البرق الأزرق”، حيث طارت مقاتلة من دون طيّار على مشارف مطار بغداد، ثمّ ألقت حمولتها فوق موكب عرّاب الرباعية وقتلته على الفور، ومعه مؤسّس الحشد الشعبي في العراق أبو مهدي المهندس.
كان سليماني يظنّ أنّه محميّ الرأس، وأنّ إسرائيل أو أميركا لن تغامرا بقتله أو استهدافه
حُسين زمانه
كان الحدث فارقاً، ومدوّياً، وهائلاً، ليس لأنّه شطب شخصية استثنائية لا يُمكن استنساخها أو استبدالها، بل لأنّه حدث مؤسّس لاستهداف هذه المنظومة، بعيداً من كلّ توازنات الردع. وقد بدا أنّ الاختلال الذي حصل مع قتل سليماني انسحب على المحور برمّته، لا سيما أنّ الردّ الإيراني الباهت، الذي تمّ تنسيقه مسبقاً مع أميركا، شرّع الأبواب أمام كسر كلّ المعادلات في المنطقة.
جاءت بلورة هذا الكسر بعد سنوات، وتحديداً حين اتّخذ نتنياهو قراراً بسحق القنصلية الإيرانية في دمشق، ثمّ بقتل إسماعيل هنية في غرفة نوم الحرس الثوري الإيراني، وهو ما اعتبره نصرالله اعتداءً موصوفاً، ليس على سيادة إيران وأمنها، بل على شرفها. لكنّ إيران بدت مرتبكة جدّاً وغير قادرة على توجيه ردّ مؤلم ورادع، وهو ما دفع نتنياهو إلى تفجير أجهزة الاتصال في لبنان، وهو قرار مفصليّ وغير مسبوق، لأنّه ينمّ عن رغبة بقتل جماعي لآلاف الأشخاص في لحظة واحدة، وربّما يكون على رأسهم نصرالله نفسه، علاوة على كبار قادة “الحزب” والحرس الثوري وحتى السفير الإيراني الذي أصيب إصابة بالغة بعد انفجار الجهاز بين يديه.
ارتبكت إيران وارتبك المحور برمّته، ثمّ جاءت القشّة التي قصمت ظهر البعير: اغتيال الأمين العامّ لـ”الحزب”، وهو ليس مسؤول الحزب وحسب، بل القائد الأعلى للمحور برمّته، وخليفة قاسم سليماني، والمتحدّث الرسمي باسم إيران الكبرى، وحُسين زمانه، ليس لشيعة لبنان وحسب، بل لكلّ شيعيّ يدبّ فوق الأرض.
بدأت الرحلة في حرب تموز عام 2006، وتحديداً من الصورة الشهيرة التي جمعت سليماني مع حسن نصرالله وعماد مغنية
الهزيمة الكبرى
وقعت الهزيمة الكبرى، وصار العلاج مستحيلاً أو شبه مستحيل. خضعت إيران ومعها “الحزب” بعد ضربات متتالية فوق الرأس، وقرّرت أن تقبل باتّفاق إذعان لوقف إطلاق النار، علّها تحافظ على ما ومن بقي من “الحزب”.
خلعت دمشق بشار الأسد. هرب الرجل تحت جنح الظلام خوفاً من اجتياح موصوف على شاكلة تسونامي مجنون. عصفت العاصفة في حلب، ثمّ حماة، ثمّ حمص، ثمّ سقطت عاصمة الأمويين. أصيبت طهران بصدمة مُركّبة، إذ قال وزير خارجيتها عباس عراقتشي إنّ الحدث مرعب وغير مفهوم. ارتعد المشروع الإيراني برمّته. اهتزّ بعنف عنيف ثمّ سقط. إيران نفسها باتت في مهبّ الريح، وخامنئي نفسه بات يرتجف.
إقرأ أيضاً: سنّة لبنان يتعاطفون ولا ينزلقون
لحقت بغداد وصنعاء بركب النعامة التي زرعت رأسها في الرمال، واستحالت رباعيّة قاسم سليماني أثراً بعد عين، بل وتحوّلت من سيطرة مطلقة على أربع عواصم عربية، إلى الذعر من سقوط طهران، وقد قيل في غابر الأزمان إنّ من يزرع الريح لا بدّ أن يحصد العاصفة.
لمتابعة الكاتب على X: