لم يكن السقف المرتفع الذي وضعه وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان حول القضية الفلسطينية بالأمر العابر أو البسيط. وهو بالتأكيد ليس موقفاً عاطفياً أو معنوياً ابن لحظته. في قراءة هادئة لمسار الدبلوماسية السعودية والسياسة الخارجية، يتّضح الخطّ البيانيّ الثابت لدى المملكة الذي لا حياد عنه منذ المبادرة العربية للسلام في قمّة بيروت عام 2002، إلى ما بعد “طوفان الأقصى” والبحث عن وقف لإطلاق النار وحلّ شامل للصراع في عام 2024.
خلاصة القول السعودي “فلسطين أمانتنا”. وهو ما تثبته الأيام والوقائع بما تحمله من تطوّرات، مفاوضات، ومشاورات.
ثبت أنّ ما تقوله السعودية إزاء فلسطين في الكواليس والمجالس الخاصة هو نفسه الذي تقوله في العلن، وذلك بعكس مواقف دول أخرى، وخصوصاً إيران التي تدّعي منذ عقود مناصرة القضية الفلسطينية، ولطالما رفضت حلّ الدولتين مقابل طرحها شعار “إزالة إسرائيل من الوجود”، لكنّها فيما بعد أيّدت حلّ الدولتين في 3 اجتماعات استثنائية لمؤتمر منظّمة دول العالم الإسلامي، وبعدها طرحت فكرة الدولة الواحدة.
ثلاثة متغيّرات تتناقض بعضها مع بعض طرحتها إيران، وخاضت بحجّتها حروباً بالعرب على ساحات عربية، لتخرج بعدها على لسان وزير الخارجية السابق ومستشار رئيس الجمهورية الحالي محمد جواد ظريف برسالة تودّد إلى اليهود، وتوقّفت عند حدود دعوة مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي إلى التراجع التكتيكي أمام العدوّ.
من خلاصات “الحرب”
تكفي قراءة كتاب “الحرب” للكاتب الاستقصائي الأميركي بوب وودوورد، ولا سيما الفصل المتعلّق بالمناقشات واللقاءات السعودية الأميركية حول فلسطين بعد عملية طوفان الأقصى، للتيقّن من التوأمة في المواقف، في المجالس علناً.
لم يكن السقف المرتفع الذي وضعه وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان حول القضية الفلسطينية بالأمر العابر أو البسيط
يروي وودوورد تفاصيل الاجتماع الذي عُقد بين الأمير محمد بن سلمان ووزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في 8 كانون الثاني من عام 2024 خلال زيارة الأخير للسعودية. وقد انطلق بلينكن في سؤال الأمير عن موقف المملكة من إبرام اتفاق مع إسرائيل في حال تمّ إنجاز كلّ الاتّفاقات الاستراتيجية التي يتمّ العمل عليها حول التعاون الدفاعي والطاقة النووية السلمية وغيرهما. وتوجّه بلينكن للأمير بالسؤال: “إذا انتهينا من اتّفاقياتنا فما الذي تحتاج إليه من إسرائيل لتحقيق التطبيع فعليّاً؟”.
أجاب الأمير: “أحتاج إلى أمرين، الهدوء في غزة، ومسار سياسي واضح للفلسطينيين لإنشاء دولتهم”. فأجاب بلينكن: “صاحب السموّ الملكيّ، هناك كلام في إسرائيل يقول إنّه عندما يتعلّق الأمر بالدولة الفلسطينية، فإنّك لا تعني ذلك فعليّاً وإنّك لا تريده حقّاً، بل تتحدّث عنه فقط. لذا قل لي ما هو الجواب”. فقال بن سلمان:” أحتاج إليه بالتأكيد. أحتاج إليه لسببين: أوّلاً، 70 في المئة من سكّان بلدي أصغر منّي، وقبل 7 أكتوبر لم يكن لديهم اهتمام بفلسطين أو بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لكن منذ 7 أكتوبر هذا ما يركّزون عليه. وثانياً، لديّ دول أخرى في العالم العربي وفي العالم الإسلامي تهتمّ بشدّة، ولن أخون شعبي”.
أضاف الأمير: “لن أخون شبابي أو العالم العربي أو الإسلامي”. فسأل بلينكن: “هل يمكنني إبلاغ “بيبي” بذلك؟”. فأجاب بن سلمان: “نعم”. سأل بلينكن مجدّداً: “بهذه الكلمات؟”. أجاب الأمير: “نعم بتلك الكلمات”.
استناداً إلى المحضر، والوقائع، والمواقف والمسارات السياسية والدبلوماسية التي تنتهجها المملكة، وصولاً إلى الموقف الأخير الذي أطلقه بن سلمان في القمّة العربية الإسلامية الاستثنائية التي عقدت في الرياض، يتطابق القول مع الفعل، وتتجسّد مقولة “فلسطين أمانتنا”، التي لا تتخلّى عن قضيّتها وشعبها وإنشاء دولتها المستقلّة وعاصمتها القدس.
ثبت أنّ ما تقوله السعودية إزاء فلسطين في الكواليس والمجالس الخاصة هو نفسه الذي تقوله في العلن، وذلك بعكس مواقف دول أخرى
القمّة محطّة تأسيسيّة
كانت القمّة العربية الإسلامية الاستثنائية محطّة تأسيسية لمرحلة جديدة عنوانها: ما بعد وقف الحرب على غزّة ولبنان، توازن فيها السعودية مواقفها في إطار سياستها الخارجية المتوازنة. وتأسيساً للملفّ الأبرز والأهمّ في الشرق الأوسط بانتظار دخول الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب البيت الأبيض وتشكيل إدارته. وعليه، تقدّم السعودية رؤيتها للحلّ في المنطقة انطلاقاً من الباب الواسع وليس من الملفّات الضيّقة في ما يتعلّق بالعلاقات الثنائية أو الملفّات المجزّأة.
تدرك السعودية آليّات سير الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، وذلك يشير إليه وودوورد في كتابه. ما تدركه السعودية أيضاً أنّ واشنطن في عهد ترامب ستكون أولويّاتها ذات أبعاد استراتيجية تتّصل بالعلاقة مع روسيا والصين ووضع النظام العالمي والمؤسّسات الدولية وأوضاع العالم، ومن ضمنه الشرق الأوسط الذي يشكّل كلّه وليس كدول أو أطراف أو ساحات مجزّأة أحد عناصر اهتمامها.
ما تقوم به السعودية هو تحضير الإطار الكامل الذي يتضمّن رؤية استراتيجية للوضع في المنطقة، وتطرح نفسها لاعباً أساسياً على صعيد العلاقات الدولية له دور على الساحة العالمية، وعلى صعيد ريادة الوضع الإقليمي، والمدخل لذلك هو حلّ القضية الفلسطينية. هناك قناعة متشكّلة في المملكة أن لا مدخل لأيّ حلّ في الشرق الأوسط بلا فلسطين، فهي المبتدأ والخبر، وذلك استناداً إلى قناعة مستمدّة من تجربة تاريخية أنّ الشعب الفلسطيني لا يهدأ ولا يكلّ قبل بلوغ دولته، وأن لا مجال لترك القضية الفلسطينية مدعاة استثمار من أيّ جهة فئوية، إقليمية، أو دولية.
جناحا التّحليق
تمتلك السعودية رؤية استراتيجية لوضعيّتها على الساحة الدولية. فهي التي تتّخذ خطوات للعب أدوار التقريب بين الجهات المتصارعة والمتنافسة على المستوى الدولي. ترتكز في سياستها الخارجية على رؤية ثابتة، وصاحبَي نظرة ثاقبة يشكّلان جناحين للتحليق السعودي في فضاء العالم: فيصل بن فرحان ومساعد العيبان.
ما تقوم به السعودية هو تحضير الإطار الكامل الذي يتضمّن رؤية استراتيجية للوضع في المنطقة، وتطرح نفسها لاعباً أساسياً على صعيد العلاقات الدولية
فرحان معروف بحيويّته وإلمامه بملفّاته، وصاحب عقل مبنيّ على الديالكتيك وفلسفته، وعنده تنطبق قاعدة “لا شيء ينتهي، لا شيء يضيع أو يضمحل، كلّ شيء يتطوّر أو يتحوّل ليُبنى عليه”. أمّا العيبان فهو مستشار الأمن القومي، ومعاصر لثلاثة عهود ملكية. يعمل بصمت، وغير محبّ للإعلام والأضواء. يحفر بالإبرة، وهو حيّاك السدو بعناية وتأنٍّ على غرار ما حاكه في بكين وصولاً إلى الاتفاق مع إيران، وصاحب نظرية انفتاح المملكة وحضنها المفتوح للجميع.
قبيل الانتخابات الأميركية، زار العيبان الولايات المتحدة الأميركية. كانت الزيارة بعيدة عن الإعلام، كما هو الحال بالنسبة إلى كلّ نشاطه وآليّات عمله. عقد لقاءات فيها مع إدارة الرئيس جو بايدن، ومع فريق المرشّح دونالد ترامب، في إطار تحضير الأرضية اللازمة للمضيّ قدماً نحو تعزيز العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، بمعزل عن الإدارة التي ستكون موجودة في البيت الأبيض.
إقرأ أيضاً: قمّة الرّياض: فلسطين أمانتنا
كان ذلك تحضيراً لأدوار كثيرة يمكن للرياض أن تتقدّم فيها، أوّلاً على خطّ القضية الفلسطينية، وانعكاسها على وضع المنطقة ككلّ بما فيه وقف الحرب على لبنان وتعزيز منطق الدولة. وثانياً، تحضيراً للعب أيّ دور بين إيران والمجتمع الدولي بالاستناد إلى العلاقة المتقدّمة بين طهران والرياض. وثالثاً التحضير للعب دور بين روسيا وأميركا، روسيا وأوكرانيا، وأميركا والصين.