اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار اقتصادي وأزمات إنسانية ملحّة. وقد أكّد اجتماع هذا العام على الفرص والتحدّيات التي تواجه معالجة المشاكل العالمية المشتركة من خلال منصّات متعدّدة الأطراف. وفي حين توصّلت القمّة إلى بعض الاتفاقات البارزة، إلا أنّ قيودها تكشف عن الصعوبة المتزايدة في مواءمة المصالح الوطنية المتنوّعة ضمن إطار مجموعة العشرين.
منصّة للمسؤوليّة المشتركة
تمثّل مجموعة العشرين أكثر من 85% من الاقتصاد العالمي، وهو ما يجعلها مكاناً مهمّاً لمواجهة التحدّيات العالمية مثل التغيّر المناخي وأمن الطاقة والغذاء وفقدان المساواة الاقتصادية. وفي ريو سلّطت القمّة الضوء على دورها كمساحة للحوار والعمل الجماعي. حدّد الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي رأس القمّة، النغمة من خلال التركيز على تمويل المناخ، والقضاء على الجوع، والإصلاحات في الحوكمة في العالم.
وحظي اقتراح البرازيل إنشاء تحالف عالمي ضدّ الجوع والفقر بدعم كبير من أكثر من 80 دولة. وعكست هذه المبادرة قدرة مؤتمر القمّة على دفع الجهود التعاونية الرامية إلى معالجة أوجه عدم المساواة. بالإضافة إلى ذلك، أقرّ القادة بالحاجة الملحّة إلى انتقال الطاقة والعمل المناخي، حتى عندما فشلوا في الاتّفاق على آليّات تمويل ملموسة.
المناقشات كشفت عن صعوبة الموازنة بين الأولويّات المتنافسة. ودفعت الدول النامية، ممثّلة في البرازيل والهند، من أجل تمويل أكثر إنصافاً للمناخ
الإنجازات الرّئيسيّة والفرص الضّائعة
كان من أبرز إنجازات القمّة إدراج الاتّحاد الإفريقي عضواً دائماً في مجموعة العشرين. وترمز هذه الخطوة إلى التحوّل نحو إطار حوكمة عالمي أكثر شمولاً، مع تمثيل أكبر للأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية. علاوة على ذلك، تناول القادة الأزمات الإنسانية في غزة وأوكرانيا، داعين إلى زيادة المساعدات والدفع نحو وقف إطلاق النار.
مع ذلك، لا تزال هناك فجوات كبيرة. ولا يزال الفشل في تحديد التزامات تمويل المناخ يعرقل التقدّم في التصدّي لتغيّر المناخ. وعلى نحو مماثل، فشل اقتراح البرازيل الطموح بفرض ضريبة 2% على مداخيل المليارديرات، كوسيلة لمكافحة التفاوت وتمويل مبادرات المناخ، في الحصول على الإجماع. وسلّطت معارضة زعماء مثل خافيير ميلي في الأرجنتين الضوء على الانقسامات الأيديولوجية داخل المجموعة.
اختبار التّعدّديّة القطبيّة
عُقدت قمّة مجموعة العشرين على خلفيّة نظام عالمي متغيّر. جمع اجتماع “بريكس +” في روسيا قبل أيام فقط الدول التي تدعو إلى بدائل للنظام الماليّ العالمي الذي يهيمن عليه الدولار الأميركي. كما شاركت الصين وروسيا، وهما لاعبان رئيسيان في مجموعة “بريكس +”، في مجموعة العشرين، وهو ما يؤكّد استراتيجيّتهما المزدوجة المتمثّلة في الانخراط في أطر متعدّدة الأطراف حصرية وشاملة.
إنّ الطبيعة المتعدّدة الأقطاب لعالم اليوم، التي تنعكس في التعايش بين مجموعة العشرين ومجموعة “بريكس +”، تقدّم فرصاً وتحدّيات على حدّ سواء. فمن ناحية، يمكن للتعدّدية القطبية أن تضفي الطابع الديمقراطي على صنع القرار العالمي، وتعطي صوتاً للأسواق الناشئة والقوى الإقليمية. ومن ناحية أخرى، تخاطر بتفتيت الحوكمة العالمية من خلال خلق كتل متنافسة ذات أولويّات متباينة. ويعكس التقدّم المحدود الذي أحرزته مجموعة العشرين في معالجة أزمة الطاقة والصراعات المتصاعدة في غزة وأوكرانيا هذه التوتّرات.
ظلّت الطاقة وتغيّر المناخ موضوعين رئيسيَّين في مؤتمر قمّة ريو، وهو ما يعكس أهميّتهما الحاسمة للاستقرار العالمي
التيّارات الجيوسياسيّة الخفيّة
عودة ترامب والاستقطاب المتصاعد: يزداد المشهد السياسي تعقيداً بسبب عودة دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة. وتهدّد سياساته “أميركا أوّلاً”، بما في ذلك الانسحاب المحتمل من اتفاقية باريس والتركيز على الإجراءات التجارية الأحاديّة، بتقويض الجهود المتعدّدة الأطراف. يضيف موقف ترامب حالة من عدم اليقين إلى قدرة مجموعة العشرين على دفع التعاون العالمي، لا سيما في مجالات مثل مخاطر التغيّر المناخي والانتعاش الاقتصادي والاستقرار الجيوسياسي.
تظهر مشاركة الصين النشطة في كلّ من مجموعة العشرين و”بريكس +” نهجها الاستراتيجي لتأكيد نفوذها العالمي. وفي الوقت نفسه، ركّزت روسيا، ممثّلة بوزير الخارجية سيرغي لافروف بسبب غياب الرئيس فلاديمير بوتين، على تعزيز التوافق مع الأسواق الناشئة أثناء التعامل مع العقوبات الغربية.
الديناميّات المعقّدة للطّاقة والمناخ: ظلّت الطاقة وتغيّر المناخ موضوعين رئيسيَّين في مؤتمر قمّة ريو، وهو ما يعكس أهميّتهما الحاسمة للاستقرار العالمي. غير أنّ المناقشات كشفت عن صعوبة الموازنة بين الأولويّات المتنافسة. ودفعت الدول النامية، ممثّلة في البرازيل والهند، من أجل تمويل أكثر إنصافاً للمناخ ونقل التكنولوجيا لتمكين تحوّلات الطاقة لديها. في المقابل، أكّدت الدول المتقدّمة، بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، على أهداف خفض الانبعاثات دون الالتزام بالدعم الماليّ اللازم لتحقيقها.
يهدّد هذا المأزق بتقويض مصداقية إدارة المناخ العالمي، خاصة مع مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ (مؤتمر دول الأطراف – COP29) في باكو في الأفق. وبدون التزامات ملموسة، يظلّ الانتقال إلى الطاقة المتجدّدة ومكافحة التغيّر المناخي يعانيان من نقص التمويل والتشتّت.
مع اختتام القمّة، أصبح من الواضح أنّ مجموعة العشرين تقف عند مفترق طرق. وتعتمد قدرتها على مواجهة التحدّيات العالمية
عدم المساواة الاقتصاديّة والضّرائب: رؤية منقسمة. إنّ عجز مجموعة العشرين عن التوصّل إلى توافق في الآراء بشأن ضريبة المليارديرات المقترحة من البرازيل يوضح الانقسامات الأيديولوجية داخل المجموعة. وفي حين تنظر الاقتصادات الناشئة إلى مثل هذه التدابير باعتبارها حيوية لمعالجة عدم المساواة وتمويل التنمية المستدامة، فإنّ الدول الأكثر ثراء لا تزال متردّدة في تأييد آليّات إعادة التوزيع العالمية. وهذا يعكس تحدّياً أوسع نطاقاً لمجموعة العشرين: التوفيق بين أولويات الدول المتقدّمة والنامية ضمن جدول أعمال واحد.
ما الذي ينتظر مجموعة العشرين؟ مع اختتام القمّة، أصبح من الواضح أنّ مجموعة العشرين تقف عند مفترق طرق. وتعتمد قدرتها على مواجهة التحدّيات العالمية على التغلّب على الانقسامات الأيديولوجية والجيوسياسية التي تعوق فعّاليتها حالياً. إنّ إدراج الاتّحاد الإفريقي كعضو دائم هو خطوة نحو قدر أكبر من الشمولية، لكنّ هذا وحده لا يمكن أن يحلّ التوتّرات العميقة الجذور داخل المجموعة.
تضيف عودة ترامب إلى المسرح العالمي طبقة أخرى من التعقيد. يمكن لسياساته إمّا أن تعطّل أو تحفّز مجموعة العشرين، اعتماداً على كيفية استجابة الدول الأخرى. وفي الوقت نفسه، يؤكّد التأثير المتزايد لمجموعة “بريكس +” على حاجة مجموعة العشرين إلى التكيّف مع عالم متعدّد الأقطاب حيث تتطلّب الأسواق الناشئة دوراً أكبر في الحوكمة العالمية.
تمثّل مجموعة العشرين أكثر من 85% من الاقتصاد العالمي، وهو ما يجعلها مكاناً مهمّاً لمواجهة التحدّيات العالمية
اختبار حاسم للتّعاون العالميّ: إنّ دور مجموعة العشرين كمنتدى للقيادة العالمية لا غنى عنه لكنه هشّ. وقد سلّط مؤتمر قمّة ريو الضوء على قدرته على تعزيز الحوار والتعاون، لكنّه كشف أيضاً عن أوجه القصور التي تعترض تحقيق نتائج ملموسة. وللمضيّ قدماً، ينتظر من مجموعة العشرين إيجاد طرق لسدّ الفجوات بين الدول المتقدّمة والنامية، ومواءمة جدول أعمالها مع حقائق عالم متعدّد الأقطاب، والاستجابة بفعّالية للأزمات الملحّة في عصرنا.
إقرأ أيضاً: آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة
لا يزال من غير المؤكّد إمكان أن ترتقي إلى مستوى هذه التحدّيات. لكنّ ما هو واضح هو أنّ المخاطر لا يمكن أن تكون أكبر. في عالم يواجه صراعات متصاعدة، وعدم استقرار اقتصادي، وكوكب سريع الاحترار، ستحدّد قدرة مجموعة العشرين على تحقيق النتائج ما إذا كانت لا تزال ذات صلة أو ستصبح ضحيّة أخرى للانقسامات التي تسعى إلى معالجتها.
*باحث في الشؤون الاقتصادية والنقدية.