ما حكاية الخلاف الشديد بين بنيامين نتنياهو وجنرالات الجيش والأمن في إسرائيل؟ لماذا يبدو أبطال الحرب أقرب إلى التسويات السياسية مع الفلسطينيين، بل مع حلّ الدولتين، من الزعيم السياسي الشعبوي الذي لا خبرة له بأمور الحرب؟ ولماذا يميل الجمهور إلى اليمين وطروحاته ويتجاهل نصائح الجنرالات؟ الجيش الإسرائيلي ذو نفوذ تاريخي في الحياة السياسية منذ تأسيس الدولة على أنقاض فلسطين، فكيف تراجع نفوذه إلى الصفوف الخلفيّة؟ ولماذا؟
هذا ما يحاول الإجابة عنه غاي زيف Guy Ziv، في كتاب صدر له قبل أشهر قليلة، وهو الباحث المتخصّص في السياسة الخارجية الأميركية، والكاتب السياسي في جريدة هآرتس الإسرائيلية، والذي عمل في وزارة الخارجية الأميركية، وفي الكونغرس، وفي المنظّمات غير الربحية الرائدة التي تعزّز المشاركة الأميركية في صنع السلام الإسرائيلي الفلسطيني.
في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، أي ما يقرب من خمسين عاماً على حرب “يوم الغفران” في 6 أكتوبر 1973، نفّذت حماس الهجوم الأكثر دموية. ومثل حرب عام 1973، كان هذا هجوماً مفاجئاً في يوم عطلة يهودية، وكانت إسرائيل غير مستعدّة له.
هزّ هجوم 7 أكتوبر بقوّة الصورة العامّة التي أشاعها نتنياهو عن نفسه طوال عقود، وهو أنه “سيّد الأمن” أو Mr. security، وأنّه وحده الذي يمكن الوثوق به لحماية إسرائيل، في حين أنّه في عهده شهدت إسرائيل أكبر فشل أمنيّ في تاريخها.
لقد حطّم يوم 7 أكتوبر سمعته، (وسوف) وسيتلطّخ إرثه بالكارثة التي حدثت تحت إشرافه. حاول نتنياهو التملّص من المسؤولية واتّهام قادة الأجهزة الأمنيّة والعسكرية بالتقصير وإضعاف الجبهة الداخلية عندما انحازوا إلى حركة الاحتجاج الصاخبة في شوارع إسرائيل قبل هجوم حماس، والتي كانت تعترض على تعديل صلاحيات المحكمة العليا الإسرائيلية.
كان أبطال إسرائيل الموقّرون هم القادة والمظلّيين والجواسيس الذين خاطروا بحياتهم من أجل البلاد
توتر قديم العهد
لكنّ التوتّر بين نتنياهو والجنرالات ليس جديداً، وله جذوره وسياقاته التاريخية، وما يزال يتفاقم ويتفاعل حتى في قلب الحرب الطويلة غير المسبوقة بين إسرائيل وحركة حماس والفصائل في غزة، وإلى حدّ ما في الضفة الغربية، ومع “الحزب” في لبنان. فما هي قصّة هذا التوتّر المزمن وما هي أسبابه؟
يدرس غاي زيف العلاقة المضطربة بين نتنياهو والجنرالات في الجيش الإسرائيلي في كتابه الأخير تحت عنوان “نتنياهو ضدّ الجنرالات، المعركة على مستقبل إسرائيل” Netanyahu vs The Generals: The Battle for Israel’s Future.
يقول زيف إنّ المجتمع الأمنيّ الإسرائيلي كان دائماً شوكة في خاصرة نتنياهو، وعلى مدى حياته السياسية. لقد حرص نتنياهو منذ دخوله عالم السياسة على تعزيز صورته بوصفه الزعيم القويّ الذي يدافع عن حقّ أمّته المحاصرة في الدفاع عن نفسها.
لكنّه منذ اليوم الأوّل اشتبك مع المؤسّسة الأمنيّة: أبعد الجنرالات وقادة أجهزة الأمن والتجسّس عن القرارات المتعلّقة بعملية السلام مع الفلسطينيين، ورفض توصياتها في أمور أخرى تتعلّق بالأمن القومي. وعند تقاعدهم من الخدمة، وقد استقال البعض، بما في ذلك المعيّنون من نتنياهو، في حالة من الغضب وأصبح العديد من هؤلاء المسؤولين الأمنيّين السابقين، منتقدين شرسين له.
لقد كان بعض هؤلاء يتبعون التقليد الإسرائيلي القاضي بدخول الجنرالات السابقين إلى الساحة السياسية كمهنة ثانية، وهو ما يشكّل تحدّياً لنتنياهو. لكن ما الذي يفسّر الكراهية المتبادلة بين نتنياهو والمجتمع الأمنيّ؟ ولماذا يتجاهل الجمهور الإسرائيلي نصائح مئات من كبار العسكريين ومسؤولي الاستخبارات السابقين ويدعم سياسات نتنياهو؟
يرتبط الأمر بشكل أساسي بتراجع دور الجيش الإسرائيلي في السياسة العامّة، وهذا يعبّر عن مسار انحداريّ متواصل منذ الأداء المضطرب للجيش في حرب 1973 مع مصر وسوريا. ولشرح حيثيّات تلك العلاقة المعقّدة، يسرد زيف وقائع المسار الذي أوصل إلى تهميش نتنياهو قادة الجيش والأمن حتى في الحرب الوجودية التي يخوضها على المستويين الشخصيّ والعامّ.
لقد حطّم يوم 7 أكتوبر سمعته، (وسوف) وسيتلطّخ إرثه بالكارثة التي حدثت تحت إشرافه
الجنرالات لم يعودوا أبطالاً
أوّلاً: كان يُنظر إلى الجيش الإسرائيلي منذ بدايات إسرائيل بوصفه “جيش الشعب”، ومصدراً مهمّاً للفخر الوطني والهويّة والتكامل الاجتماعي الذي يجسّد فضائل المشروع الصهيوني والسمات الجديرة بالثناء. وخلال سنوات تكوين إسرائيل، تمتّعت المؤسّسة الأمنية بمكانة عالية بشكل خاصّ في المجتمع الإسرائيلي، فأدّى ذلك إلى نفوذ غير متناسب في الأحداث السياسية للدولة الناشئة.
كان أبطال إسرائيل الموقّرون هم القادة والمظلّيين والجواسيس الذين خاطروا بحياتهم من أجل البلاد. لقد عزّزت الانتصارات المذهلة التي حقّقتها إسرائيل في الحرب العربية الإسرائيلية الأولى في عامَي 1948 و1949، وحملة سيناء في عام 1956، وحرب عام 1967 (حرب الأيام الستّة) الروح القتالية للجيش الإسرائيلي وجنرالاته المهرة. وقد أنتجت حرب عام 1967 على وجه الخصوص، التي هُزمت فيها مصر والأردن وسوريا في ستّة أيام فقط من القتال الذي تضمّن “تحرير” القدس، جوّاً من النشوة التي رفعت من مكانة الجنرالات.
ثانياً: كانت حرب “يوم الغفران” نقطة تحوّل رئيسية في صورة الجيش. فقد فوجئ بالهجوم في السادس من أكتوبر (تشرين الأوّل) 1973، الذي تزامن مع أقدس يوم في التقويم اليهودي. كان تقدير إيلي زيرا، مدير الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية آنذاك، أنّ فرص اندلاع حرب مع مصر وسوريا “منخفضة للغاية”. أُلقي اللوم على الجنرالات. واستقال رئيس أركان الجيش الإسرائيلي ديفيد إليعازر وغيره من كبار الضبّاط.
لكنّ الجيش استمرّ في ممارسة نفوذه على عملية صنع السياسات لمدّة طويلة بعد كارثة حرب 1973. لكنّ الكوارث التي وقعت منذ ذلك الحين أسهمت في تآكل الصورة المقدّسة للجيش بنظر المجتمع الإسرائيلي. فقد اعتُبرت حرب لبنان عام 1982 على نطاق واسع حرباً غير ضرورية ومكلفة بشكل خاصّ، وهي التي أصبحت تُعرف بفيتنام إسرائيل و”الفوضى اللبنانية”.
التوتّر بين نتنياهو والجنرالات ليس جديداً، وله جذوره وسياقاته التاريخية، وما يزال يتفاقم ويتفاعل حتى في قلب الحرب الطويلة غير المسبوقة
أمّا حرب إسرائيل في عام 2006 ضدّ قوّات “الحزب” في لبنان، أثناء رئاسة إيهود أولمرت للوزراء، فقد اعتُبِرت على نطاق واسع بمنزلة فشل عسكري. وعلى نحو مماثل، كانت عمليات القصف الإسرائيلية المتكرّرة بمنزلة فشل عسكري، وانتهت جميع الاشتباكات مع حماس والجهاد الإسلامي في غزة منذ عام 2008 بشكل غير حاسم، مع سيطرة حماس بقوّة على القطاع.
الجنرالات أصبحوا حمائم
ثالثاً: لقد كان حلّ الدولتين النموذج المفضّل لحلّ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني منذ أواخر تسعينيات القرن العشرين، ولدى كبار المحاربين القدامى في المؤسّسة الأمنيّة. أمّا نهج نتنياهو منذ عودته إلى رئاسة الوزراء في عام 2009 تجاه قضيّتين رئيسيّتين تتّصلان بالفلسطينيين والبرنامج النووي الإيراني، فقد عزّز رفض المجتمع الأمنيّ لاستمراره في الزعامة.
في تشرين الأوّل 2014، كوّن مئات من كبار المسؤولين الأمنيّين المتقاعدين منظّمة جديدة، وهي “القادة من أجل أمن إسرائيل”، بهدف إنقاذ حلّ الدولتين الذي اعتقدوا أنّه في خطر الزوال.
لدى إطلاق هذه المنظّمة غير الحزبية، عقد قادتها مؤتمراً صحافياً وصفوا فيه نتنياهو بأنّه “خطر” على إسرائيل. ولم يواجه نهج نتنياهو في التعامل مع الضفة الغربية وغزة من حيث توسيع الاستيطان والحصار أيّ معارضة من جانب الجنرالات المتقاعدين ورؤساء الاستخبارات فحسب، بل وأيضاً من جانب كبار المسؤولين النشطين في المؤسّسة الأمنيّة.
على الرغم من أنّ العسكريين لا يُسمح لهم بالتعبير عن آرائهم السياسية، فإنّ آراءهم في مجال الأمن تُعرَض على الملأ عندما يدلون بشهاداتهم أمام الكنيست أو عندما تُسرَّب إفاداتهم الوزارية إلى وسائل الإعلام.
فرصة فريدة من نوعها
في الأيام الأخيرة من حملته الانتخابية في أيلول 2019، أعلن نتنياهو نيّته ضمّ وادي الأردن في ولايته المقبلة. ونظراً لانفتاح إدارة دونالد ترامب آنذاك على ضمّ إسرائيل لأجزاء من الضفة الغربية، قال نتنياهو إنّ إسرائيل تواجه “فرصة فريدة من نوعها… وأنا أشكّ في أن تتاح لنا فرصة أخرى في السنوات الخمسين المقبلة… لتحديد حدود إسرائيل”.
حاول نتنياهو التملّص من المسؤولية واتّهام قادة الأجهزة الأمنيّة والعسكرية بالتقصير وإضعاف الجبهة الداخلية
مع ذلك، تأخّر مؤتمره الصحافي لمدّة ساعة ونصف، بعدما واجه معارضة شديدة لخططه من قِبَل كبار المسؤولين في المؤسّسة الأمنية الذين أطلعهم على الأمر عبر الهاتف. في أعقاب هذه المشادّة، التي وصفها بن كاسبيت بأنّها “مباراة صراخ غير مسبوقة”، تراجع نتنياهو عن خطّته الأصلية وأعلن الضمّ الفوري لوادي الأردن.
أمّا البرنامج النووي الإيراني، فقد جعل نتنياهو القضاء عليه من أولوياته الاستراتيجية. في عام 1993 كتب نتنياهو في جريدة يديعوت أحرونوت يحذّر من إنتاج طهران قنبلتها النووية عام 1999. وفي عام 2010 كان على وشك شنّ غارة على إيران بقصد ضرب المنشآت النووية، فكان له بالمرصاد جهاز الموساد الذي أفشل خطط نتنياهو، بالتعاون مع إدارة الرئيس باراك أوباما (حكم بين عامَي 2009 و2017).
إقرأ أيضاً: الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة
أخيراً، تكشف أيضاً هذه الدراسة، التي توثّق العلاقة المعقّدة بين نتنياهو والجنرالات في الجيش والأمن، مدى ابتعاد الجمهور الإسرائيلي عن الحسابات العقلانية، وهو ما يجعله ينجرف حتى اللحظة مع السياسات الهوجاء لنتنياهو ورفاقه، والحروب التي هي بلا أفق سياسي ولا نهاية واضحة.
لمتابعة الكاتب على X: