فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه عدوان موصوف على لبنان. تخلّت بقيّة الساحات عن “الحزب”. أمسى وحيداً في الميدان. دخل معركة غير متناسبة ولا مناسبة. فيما لم يتخلّ المواطن اللبناني عن شريكه، ولم يبخل في احتضانه ومساعدته عبر تمسّكه بالوحدة اللبنانية.
يتأرجح لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النبيه. هنالك صراع خفيّ ومحموم في السياسة والعقيدة. ويعوّل الخارج والداخل على حكمة الرئيس نبيه بري. إنّه الوحيد القادر على المعالجة الوطنية. يحصل ذلك مع تلاشي الدولة التي اضمحلّ هيكلها المؤسّساتي والشرعي، وفقدت مشروعيّتها. فهل يتجدّد الصراع الخفيّ؟ وما مدى نطاق التفويض الممنوح للرئيس بري؟
التّمايز بين الثّنائيّة
تعبّر حركة “أمل” عن نفسها في إطارها اللبناني المشهود، وعمقها العربي. لم تلوّث نفسها بأبعاد غير لبنانية، وبأوهام أيديولوجية “دونكيشوتية” تقلق المنطقة والإقليم وترهق لبنان. تؤمن بنهائية الكيان اللبناني، وبعدم الخروج انتمائياً عن خطّ الدولة. اعتبرها “الحزب” حركة علمانية متمرّدة على تعاليم الإمام المعصوم وعقيدة ولاية الفقيه.
تكمن أبرز التمايزات بين “الحركة” و”الحزب” في كون الأولى حركة لبنانية ومساحة نشاطها لبنانية، فيما يرفض “الحزب” أن يكون حزباً لبنانياً خالصاً في الأهداف والعقيدة والانتماء. يكتفي بلبنانيّة موارده البشرية واستثمارها حيث هو موجود من لبنان إلى الخارج. لا تتبنّى حركة “أمل” ولاية الفقيه، ولا تروّج للإيمان بها. تعلن التزامها وبصراحة تامّة مرجعية النجف، في حين يلتزم الحزب مبدأ ولاية الفقيه ومرجعيّتها قم.
نهاية زمن الحلول المجتزأة
يعلم الرئيس بري أنّه لا مجال لانتاج حلول مجتزأة لا تزال تستهوي الحزب، لا سيما أنّ القرار النهائي ليس عنده، بل في طهران. تقود هذه الإشكالية إلى مأزق محاصرة الرئيس بري، بصفتَيه السياسية كزعيم لحركة “أمل” وما يمثّل في طائفته الكريمة، والدستورية الشرعية كرئيس للسلطة التشريعية اللبنانية، بين تفويضين اثنين:
يعلم الرئيس بري أنّه لا مجال لانتاج حلول مجتزأة لا تزال تستهوي الحزب، لا سيما أنّ القرار النهائي ليس عنده
– الأول: نطاق ومقدار تفويض الحزب لشريكه في الثنائية وأخيه الأكبر على حدّ تعبير الشيخ نعيم قاسم.
– الثاني: إطار المجال الحيوي للحراك الميداني والسياسي الذي منحته طهران للحزب.
يشكّل التمايز بين الرؤيتين المساحة الحقيقية في حراك الرئيس نبيه بري. فهل هي كافية؟ وهل مسموح له من خلالها الخرق وانتزاع وقف إطلاق النار، خاصة بعد انقضاض طهران على البيان الثلاثي الذي جمع الرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي والزعيم وليد جنبلاط؟
يريد الرئيس بري الحلّ النهائي. وهو ما لا تريده إيران ولا يريده “الحزب”. ما يحتاج إليه الرئيس بري غير معهود في صلاحية “الحزب”، ولا يستطيع منحه إياه. وطبعاً لا تريد إيران إعطاءه إيّاه، فهي تفاوض على الطاولات الكبرى وتبيع في لبنان.
يفاوض الرئيس بري على وقف الحرب. يقع العبء الكبير عليه، في حين لا توجد رؤية صريحة لبنانية لكيفيّة تطبيق القرار 1701 الذي يفترض تطبيقه على الطريقة الأممية لا اللبنانية. تمسك إيران بقرار الحزب المركزي. وإذا ما وافق على تطبيق الـ1701، فلن توافق طهران على إعادة النظر في السلاح. فهل يقبلون بالاستراتيجية الدفاعية وتطبيق القرارات الدولية، للدخول في ورشة انتقال الحزب إلى حزب سياسي؟
الموانع الثّلاثة
فوّض “الحزب” شريكه في الثنائية. لا يثق بأحد غيره في هذه الظروف، على الرغم من كلّ الاختلافات الخفيّة. يريد التوصّل إلى وقف إطلاق النار، وهذا هو حدّه فقط. لكنّه لم يعلن صراحة موافقته العلنيّة على تطبيق القرار 1701. يريد فقط، بحسب رؤيته، انتزاع قرار وقف العمليات العدائية لكي يصار بعدئذٍ إلى التفاوض على المراحل التالية، حيث يتقدّم البحث في تطبيق القرارات الدولية وتفاهمات اليوم التالي.
يتأرجح لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النبيه. هنالك صراع خفيّ ومحموم في السياسة والعقيدة
لكن هذا الأمر ليس متاحاً، مهما كان تطوّر الميدان في الجنوب اللبناني. كان مقبولاً في الفترة التي سبقت شهر أيلول الفائت، “المبلول بالإجرام الإسرائيلي”. لا يزال الحزب في المرحلة السابقة. يتصرّف بعقلية مرحلة بائدة. يستخدم آليّات التنفيذ غير المطابقة للظروف الراهنة اللبنانية، والإقليمية، العربية والدولية الأممية. لكن الظروف تبدّلت، ونشأت ثلاث موانع:
– لم يعد مقبولاً محلياً ولبنانياً، مهما كانت نتيجة الميدان، وجود سلاح موازي وغير شرعي، خارج عن إطار الدولة والمؤسّسات.
– من غير المسموح عربياً أن يظلّ لبنان ساحة متفلّتة وأرض مشاع وخاصرة رخوة للعالم العربي. لذا عليه أن يعود إلى لبنانيّته وعربيّته. يجب أن يكون جزءاً من الشرعية العربية الصرفة، وأن لا يكون ساحة من ساحات الابتزاز “الملاليّة” خارج الحدود اللبنانية.
– من غير المُحلّل دولياً وأممياً بقاء لبنان دولة ناقصة السيادة ومجزّأة السلطة وممزّقة المؤسّسات. هو ملزم بأن يرجع إلى مفهوم الدولة، وأن يحوز قرارَي الحرب والسلم، ويبسط سلطته على كامل رقعته. ويفترض استكمال تحرير أرضه في اليوم التالي من خلال الشرعية الدولية وتطبيق كلّ مواثيقها.
لبنان هو الغالب
خطّطت “إيران – خامنئي” للسيطرة على “حماس” والقضية الفلسطينية. تريد التعويض عن فشل الاستحواذ على “فتح” والسلطة الفلسطينية. اكتفت بالمحاربة عن بعد، والتفاوض عن قرب مع كلّ من الشيطانين الأكبر والأصغر. تريد المكانة الإقليمية الكبرى، والعلاقات الدولية المريحة أكثر، مقابل تجفيف وتقليم الأذرع وتغيير سلوكيّات النظام وتموضعاته.
من غير المسموح عربياً أن يظلّ لبنان ساحة متفلّتة وأرض مشاع وخاصرة رخوة للعالم العربي. لذا عليه أن يعود إلى لبنانيّته وعربيّته
ما زالت “عاصمة الساحات” تراهن على دور أو منزلة لها في تبدّلات عاقبة المنطقة. تلعب على وتر الفرص المتعدّدة والمفتوحة بكلّ متناقضاتها. لذا أوكلت طهران حجّة تحرير القدس لحراك الأجيال المقبلة. استفادت من الفرصة التي أوجبتها عملية طوفان الأقصى الحمساوية والجبهة الإسنادية اللبنانية لإضعاف الأرضيّات العربيّة كافّة في سبيل تحقيق المقاصد المهمّة والممهّدة لعودة الإمام المنتظر في آخر الزمان. تبقي على كلّ شيء في حالة اللامؤقّت إلى حين عودته.
إقرأ أيضاً: وصيّة الخميني: النّظام… أهمّ من المهدي
بالمحصلة، يوكل الحزب إلى قائده الوليّ الفقيه، تحديد مسوّداته السياسية العامّة، مع المصالح والأولويّات، وحتى قرارات الحرب والسلم، وليس إلى الدولة اللبنانية. تفتح هذه الوقائع الباب، وربّما على البارد، على نقاش صريح ومنافسة مستترة بين الثنائي أوّلاً، ومع بقيّة شركائه اللبنانيين المعارضين ثانياً، وتجعل من لبنان جمهورية تصريف أعمال على الدوام، وبلداً مترنّحاً بين ولاية الفقيه وولاية النبيه. فلمن الغلبة؟ طبعاً سيكون لبنان هو الغالب الوحيد في النهاية، إنّما لبنان الدولة والقانون والمؤسّسات والرسالة والعيش الواحد الموحّد، شاء من شاء وأبى من أبى.
لمتابعة الكاتب على X: