بالتوازي مع موجة النزوح التي انفجرت في الثلث الأخير من شهر أيلول الماضي، ثمّة تيّار من القلق على الهويّة آخذ في التصاعد والانتشار في مدينة طرابلس، ولا سيما مع الأخبار الممزوجة بالشائعات، والمثقلة بالشحن والكراهية، التي تتحدّث عن هندسة ديمغرافية جديدة في لبنان لا مناصّ من أن تطال عاصمة الشمال، بما تمّثل من مركز ثقل سنّيّ.
تراكمات تفاصيل صغيرة
في البداية لا بدّ من التوضيح أنّ القلق في طرابلس هو على الهويّة الدينية بروافدها الثقافية والمجتمعية، لا الهويّة الديمغرافية. فمهما كان حجم النزوح إلى طرابلس وفضائها الجيوسياسي الممتدّ حتى الحدود السورية في عكار وأمده وطابعه الهويّاتي، فإنّ الكثافة السكّانية السنّية قادرة على تذويب أيّ مفاعيل له، بحيث يحتاج التغيير الديمغرافي الجدّي والمنظّم إلى عقود.
ومع ذلك، ثمّة بعض التدابير الأهليّة المكتومة التي ترمي للحؤول دون حصول خرق ديمغرافي، منها ما أسرّ به أحد الوسطاء العقاريين من ذوي الخبرة والتجربة من أنّ العديد ممّن يعرضون عقاراتهم للبيع يسألون عن هويّة الشاري، كشرط أساسي لإتمام عملية البيع مهما كان حجم المبلغ المعروض، وتشديد عدد من رجال الدين الرصينين في وعظهم على احتضان النازحين وتيسير أمورهم إنّما دون بيعهم عقارات أو شققاً والاكتفاء بالإيجار فقط.
في البداية لا بدّ من التوضيح أنّ القلق في طرابلس هو على الهويّة الدينية بروافدها الثقافية والمجتمعية، لا الهويّة الديمغرافية
يعكس ذلك نوعاً من الوعي المجتمعي المتأخّر للحفاظ على هويّة المدينة التاريخية، وهي المعروفة بكونها ذات طابع محافظ وتعدّ الأكثر تعبيراً عن الوجدان السنّي، مع الاعتزاز بالحضور التاريخي والثقافي والاجتماعي للمسيحيين والعلويين، بمعزل عن سلوكيات بعض الشرائح والجماعات المتزمّتة.
أمّا الدافع إلى تصاعد القلق الهويّاتي فمردّه إلى تراكم مجموعة كبيرة من التصرّفات الفردية، المعطوفة على سيل من الأخبار المضلّلة التي تتحدّث عن إعادة توطين منظّمة للنازحين، بالإضافة إلى الحرب التخوينية التي تخاض في عوالم التواصل الاجتماعي، وتصاعد خطاب الكراهية وسط موجة من التحريض بلا ضوابط. وفوق كلّ ذلك الحساسية الطرابلسية المفرطة تجاه الحزب والغزو الأيديولوجي لملالي إيران للعديد من الحواضر السنّية التاريخية.
ظواهر مقلقة
القلق على الهويّة هو مادّة للنقاشات اليومية والتشريح في الشارع الطرابلسي والصالونات وعلى طاولات المقاهي، حيث لكلّ جليس حادثة يرويها، إمّا عايشها بنفسه، أو وصلت إلى مسامعه بالتواتر، تسهم في تعزيز هذا المناخ. على سبيل المثال يتناقل بعض الشبّان حادثة جرت مع أحد العاملين في توصيل شبكات الإنترنت، حينما كان يمدّد كابلات الشبكة العنكبوتية إلى منزل نازح ميسور، فسأله عن كلمة السرّ التي يريد وضعها لحسابه، فردّ النازح “7 أيار”.
يضاف إلى ذلك رصد بعض الأوساط الطرابلسية لظاهرة فردية الطابع، لكنّها تكرّرت في غير مكان، وتتمثّل في سيارات تجول في أحد الشوارع
مصداقية مثل هذا النوع من الحوادث، أو عدم مصداقيتها، أمر لا تأثير له على حجم الانتشار الواسع الذي حظيت به. إذ حصل الاستناد هنا إلى حادثة واقعية تركت شرخاً في العلاقة بين السنّة والشيعة حتى يومنا هذا.
يضاف إلى ذلك رصد بعض الأوساط الطرابلسية لظاهرة فردية الطابع، لكنّها تكرّرت في غير مكان، وتتمثّل في سيارات تجول في أحد الشوارع صادحةً بندبيات حسينية شهيرة عند الشيعة. فمع أنّ هذه الظاهرة سابقة على موجة النزوح، وحتى على عملية “طوفان الأقصى”، إلا أنّ استمرارها يضاعف من منسوب القلق بشكل لاإرادي، خصوصاً عندما تكون معزّزة بسيارات ذات زجاج داكن ومن دون لوحة تسجيل، بحيث تذهب الظنون مباشرة إلى فريق سياسي فوق الدولة والقانون ويعتبر جمهوره من دون الآخرين “أشرف الناس”، حسب تعليقات متداولة.
علاوة على خطب الجمعة لبعض رجال الدين التي تثبت عدم إحاطتهم بالمناخ الاجتماعي السائد، بحيث يمدح ذاك الحزبَ بشكل فجّ ثقيل على السامعين، ويذكر ذلك الأمين العامّ الراحل للحزب ، قائلاً “رضي الله عنه”، وهو العارف أكثر من غيره أنّ هذا التعبير له خصوصية عند السنّة ولا يطلق إلا على الصحابة. فكيف به عندما يطلقه على شخصية لديها سيرة جدلية ومختلف عليها؟
إلى ذلك تزيد العديد من الحوادث الفردية المشابهة من قتامة المشهدية القلقة، التي اجتمعت لتسكب ملحاً على جرح قديم أعيد فتقه مجدّداً بفعل فاعل سنّي، وهي الجماعة الإسلامية.
بدأت في الآونة الأخيرة تظهر بعض المؤشّرات الخطرة التي تشي باحتمال انفجار فتنة ذات طابع ديني إن لم يسارع أصحاب الحلّ والعقد إلى تدارك الأمر
الإخوان والغزو الدّينيّ
لم يكن تقارب الجماعة الإسلامية من الحزب سياسياً فحسب، بل ديني أيضاً. فقد عملت مع مختلف أفرع الإخوان المسلمين على إحياء المساحات الدينية المشتركة مع أيديولوجية ملالي إيران، بهدف تجسير الفجوة بين السنّة والحزب، وتزخيم التحالف بين قوى الإسلام السياسي بجناحيه. لكنّ الافتعال كان السمة الغالبة على هذا التقارب، وهو ما أسهم في استفزاز شريحة واسعة من السلفية، نتيجة تركيز الحملة الإخوانية – الملالية المشتركة عليهم، وتلطّيها خلف رداء الصوفية، وصولاً إلى تغريدة المرشد الإيراني علي خامنئي الشهيرة عن الصراع بين الجبهتين الحسينية واليزيدية، التي أجّجت العصبية السنّية، ولا سيما في طرابلس، حاضنة التيّار السلفي.
أسهم هذا المناخ في زيادة حدّة الاستقطاب، بعدما شعرت شريحة اجتماعية لا بأس بها في طرابلس بأنّها مستهدفة في هويّتها الدينية – الفقهية، ولا سيما مع الهجوم الإخواني المستمرّ على بعض أعلام السلفية، وتحميلهم مسؤولية كلّ ما تعاني منه الأمّة الإسلامية. علاوة على السردية المستحدثة لتحالف الإخوان والممانعة التي تبرّئ ملالي إيران والحزب من دماء السوريين، وتلقيها على عاتق “المؤامرة” الغربية – العربية المزعومة للتفريق بين السنّة والشيعة، وفي القلب منها التيار الفكري السلفي.
إقرأ أيضاً: العيش مع “الحزب”… ومن دونه؟
من الأمثلة على ذلك الفيديو المتداول على منصّات التواصل الاجتماعي للشيخ الإخواني المصري سلامة عبد القوي، الذي يبجّل فيه الشيعة قاصداً إيران والحزب بالذات، والذي كان له وقع سيّئ في الأوساط السنّية المعتدلة قبل غيرها، إضافة إلى الخطاب المستفزّ الصادر عن الشيخ حسن مرعب.
نتيجة كلّ ما سبق، بدأت في الآونة الأخيرة تظهر بعض المؤشّرات الخطرة التي تشي باحتمال انفجار فتنة ذات طابع ديني إن لم يسارع أصحاب الحلّ والعقد إلى تدارك الأمر عبر خطاب تهدويّ واعٍ يحول دون ترسيخ فكرة “الغزو الديني” التي تلقى رواجاً واسعاً، والتخلّي عن سياسة الانكفاء ودعم هذه الجماعة للوقوف في وجه تلك.