الصراعات لا تنتهي، وتحديداً في الشرق الأوسط. هذه معادلة خبرتها كلّ الدول والقوى والأمم على مرّ التاريخ. لذا لا بدّ من العمل على كيفية إدارتها من دون تفجّرها، وإن استمرّ التنافس أو التنازع أو الخلاف فيمكن إدارته عبر القنوات الدبلوماسية والمؤسّساتية مع حفظ الحقوق لأصحابها. ويمكن لعملية طوفان الأقصى، التي أدخلت المنطقة في حرب يُراد لها أن تغيّر وجه المنطقة، أن تعطي المثال الأوضح على عدم استسلام الشعوب التي تطالب بنيل حقّها أو حرّيتها أو تأسيس دولتها. وهو أكثر ما ينطبق على نضال الشعب الفلسطيني المتواصل منذ عقود، الذي تكوّن معه موقف دولي حاسم بأن لا خيار لوقف المسارات الدموية إلّا بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهو ما أقدمت عليه دول كثيرة. وأعادت المملكة العربية السعودية شقّ الطريق إلى الدولة الفلسطينية بتحالف سداسي جال العالم بعد القمّة الإسلامية التي عقدت في تشرين الأوّل 2023، والتي اعتمدت مبادرة المملكة في عام 2002، أي حلّ الدولتين. وها قد نجحت السعودية في رفع عدد الدول التي تعترف بالدولة الفلسطينية إلى 142، فأصبح هناك تحالف لحلّ الدولتين، عقد اجتماعه على مسافة أيام من اجتماع جديد لمنظمة الدول العربية والإسلامية الذي ستحتضنه العاصمة السعودية الرياض في 11 تشرين الثاني الجاري.
في موقف غير مسبوق تحدّث وزير الخارجية السعودية الأمير فيصل بن فرحان عن الدولة الفلسطينية بأنّها الحلّ الوحيد لاضطرابات الشرق الأوسط وحروبها البشعة، مضيفاً أنّ قيام هذه الدولة لا يحتاج موافقة إسرائيل.
تنطلق السعودية بفعّالية لسياستها الخارجية، وبمساراتها الدبلوماسية لأجل تعزيز المواقف الدولية المؤيّدة لقيام دولة فلسطينية وفق منطق حلّ الدولتين. الخلاصة الوحيدة التي تتشكّل أمام دول العالم هي أنّه كلّما تهرّبت إسرائيل والقوى الداعمة لها من الاعتراف بحقّ الفلسطينيين في بناء دولتهم، ستتوسّع مسارات الصراع ولن تنتهي الحروب.
الصراعات لا تنتهي، وتحديداً في الشرق الأوسط. هذه معادلة خبرتها كلّ الدول والقوى والأمم على مرّ التاريخ
في المقابل، تريد إسرائيل من حربها على غزة ولبنان وفي كلّ المنطقة أن تغيّر وجه المنطقة. ما يقوله نتنياهو واضح، وهو أنّ إسرائيل تريد محاربة أذرع إيران وصولاً إلى ضربها وتقويضها. في المقابل تقول السعودية إنّه لا حلّ للنزاعات في المنطقة إلا من خلال قيامة الدول الوطنية بمؤسّساتها، وإنّه لا يمكن الرهان على تعزيز الدول إلا بقيام دولة فلسطينية مكتملة الأركان. ما عدا ذلك فإنّ الصراعات ستبقى متناسلة، والشعب الفلسطيني لن يتخلّى عن نضاله. وقد تتداخل عوامل ودول كثيرة للاستثمار في ذلك في سبيل ضرب مرتكزات الدول الأخرى في الجوار.
تشرح السعودية رؤيتها لكلّ الدول المعنيّة في المنطقة وفي العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية التي لا تزال تدعم إسرائيل، لكنّها في المقابل تشير إلى استعدادها للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وسط مواصلة الضغوط السعودية لدفع الأميركيين إلى ذلك، خصوصاً أنّ المملكة تشترط أن لا اتّفاقات استراتيجية مع واشنطن ولا اتفاقات على مستوى المنطقة إلا من خلال إعلان الدولة الفلسطينية.
ما يقوله نتنياهو واضح، وهو أنّ إسرائيل تريد محاربة أذرع إيران وصولاً إلى ضربها وتقويضها
الرّؤية السّعوديّة… منذ أوكرانيا
تنطلق السعودية من رؤيتها لإدارة الصراع في المنطقة، وهي التي كانت قد استبقت ذلك بالتقارب مع إيران، وبالانفتاح على روسيا والصين، إلى جانب علاقتها الممتازة مع الولايات المتحدة الأميركية والقابلة للتطوّر أكثر من خلال تحالف استراتيجي سيكون المدخل إليه أيضاً هو إيجاد حلّ عادل للقضية الفلسطينية. ذلك ما سيركّز عليه اجتماع قمّة الدول العربية والإسلامية الأسبوع المقبل، الذي سيكون مخصّصاً لوضع مسار واضح ومتكامل لحلّ الدولتين وللاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، وطبعاً وقف النار في غزة، ووقف النار في لبنان. وستقدّم القمّة رؤية واضحة لإنهاء الحروب المندلعة وتكريس استقرار طويل الأمد.
في لحظة اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية اعتبرت الرياض أنّها حرب في قلب أوروبا ستطال وتشمل التوازنات على المستوى العالمي ولن يكون الشرق الأوسط بمنأى عنها. بل إنّ تداعياتها سترسو على شواطئ المتوسط لاعتبارات عديدة. وهو ما عاد وتحقّق في تفجّر عملية طوفان الأقصى والحرب الإسرائيلية على المنطقة. وذلك ربط بين الملفّات بشكل مباشر أو غير مباشر، خصوصاً لدى سعي القوى الدولية إلى وضع رؤية أو استراتيجية لوقف الحروب وإنتاج حلول سياسية. وهو ما يترقّبه العالم مع وصول رئيس أميركي جديد إلى البيت الأبيض. إذ يترقّب العالم نتائج الانتخابات والاستراتيجية التي ستعتمدها واشنطن الإدارة الأميركية الجديدة، من أوكرانيا إلى غزة. فأيّ حلّ في أوكرانيا لا بدّ أن يكون له انعكاس على وضع المنطقة بناء على العلاقات الروسية الأميركية المتشابكة في ما يتعلّق بإيران أو سوريا. لذا لا يمكن أن تمرّ مسألة تقويض النفوذ الإيراني في المنطقة إلا ببناء دولة فلسطينية، خصوصاً أنّ طهران لطالما استثمرت القضية الفلسطينية لتعزيز نفوذها وتغذية حلفائها وتعميم مفهوم الكيانات الموازية للدول.
تنطلق السعودية من رؤيتها لإدارة الصراع في المنطقة، وهي التي كانت قد استبقت ذلك بالتقارب مع إيران، وبالانفتاح على روسيا والصين
7 نقاط ستخلص إليها القمّة
ستكون القمّة تعبيراً عن الاستراتيجية السعودية الجديدة التي تريد فتح حقبة جديدة على المستويين السياسي والدبلوماسي في المنطقة والتي يمكن اختصارها بمجموعة نقاط:
- التحوّل في السياسة الخارجية المبنيّ على المصالح الوطنية للدول، بالانفتاح في العلاقات ما بين القوى المتضادّة.
- التحوّل البنّاء على المستوى الدولي الذي يتركّز على بناء العلاقات ومدّ الجسور مع كلّ القوى الإقليمية بدلاً من البقاء في حالة الصدام.
- تعزيز العلاقات السياسية ربطاً بالمصالح الاقتصادية وتعزيز الاستقرار باتفاقيات أمنيّة أو استراتيجية.
- تحسين العلاقات مع القوى والدول التي ليس بالضرورة أن تكون معها حالة تحالفيّة أو تفاهميّة، والتي كانت تتّسم العلاقة بها بالصراع، كما هو الحال بالنسبة إلى إيران.
- توسيع مروحة العلاقات والشراكات مع دول الإقليم، وخصوصاً تركيا وإيران، ومع القوى على الساحة العالمية كما هو الحال مع روسيا والصين، إلى جانب العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية والغرب.
إقرأ أيضاً: “الميدان” الذي ننتظر “كلمته” يتمدّد من الخيام إلى إيران
- اعتماد مبدأ الدبلوماسية المتفرّعة في اتّجاهات متعدّدة والرهان على النفوذ والقوّة السعودية على المستوى الدولي انطلاقاً من موقعها كدولة في مجموعة دول العشرين، للعب أدوار في مجال الوساطة وحلّ النزاعات. وقد بادرت السعودية ولا تزال تبادر في سبيل إيجاد حلّ للحرب الروسية الأوكرانية، وهي بصدد التحضير لقمّة خاصّة بهذا الملفّ.
- امتلاك رؤية استراتيجية واضحة لوضع المنطقة العربية من خلال الشراكات والتفاهمات والاهتمام بكلّ الملفّات العالقة وعلى رأسها القضية الفلسطينية، بالإضافة إلى وضع رؤية واضحة حول حلّ الأزمة في لبنان، أو وضع برنامج واضح ومتكامل لحلّ الأزمة السورية، وذلك أيضاً بالتعاون والتفاهم مع الولايات المتحدة الأميركية وروسيا.