الأهوال التي كشف عنها تقرير “واشنطن بوست” بشأن الدمار اللاحق بالقرى الحدودية اللبنانية، والأثر الاجتماعي والثقافي والسياسي الطويل الأمد للحرب، يُقابلها منطق عبّر عنه الأمين العام للحزب الجديد الشيخ نعيم قاسم ومفاده أنّ التضحيات طبيعية وضرورية في حروب التحرير.
تشير بيانات الصحيفة الأميركية وفقاً لتحليل بيانات الأقمار الصناعية أنّ ربع المباني، بمجموع نحو 6,000 منشأة، في 25 بلدية قرب الحدود اللبنانية دمّرت أو تضرّرت منذ توسّع الحرب بين إسرائيل والحزب، في حين أنّ نصف المنشآت في قرى مثل عيتا الشعب وكفركلا قد هدّمت.
تحذّر الصحيفة من أنّ منهجية التدمير في هذه المناطق ستجعل عودة السكان مستقبلاً شبه مستحيلة، مشيرةً إلى نزوح ما يقارب 834,000 شخص داخليّاً، معظمهم من المناطق الجنوبية، وهو ما يعدّ بين التقديرات الدنيا لواقع النزوح الحالي المرشّح للتضخّم أكثر في ظلّ توسّع جبهة البقاع وبعلبك.
يُضاف إلى ذلك أثر لا يقلّ خطورة يتعلّق بتداعيات الحرب نفسها على عموم لبنان اقتصاداً واجتماعاً وسياسةً، بأحجام تستدعي مساءلة أخلاقية لسردية التضحية والقول بملازمتها الحتمية للكرامة والتحرير!
كثير من لغو الحزب السابق وتقنيّات تلاعبه بعقول اللبنانيين لإجبارهم على تحمّل تضحيات الدمار والنزوح والفقد، بات ممّا لا يمكن التغاضي عنه الآن.
الحزب يُخفي شروطاً أخلاقيّة
ما يخفيه خطاب الحزب هو أنّ أحد أبرز الشروط الأخلاقية للمقاومة يكمن في إعطاء السلام والتسوية فرصة، إذا ما توافرت هذه الفرصة بشكل جدّي. ولئن تحقّق هذا الشرط منذ انسحاب إسرائيل الشامل عام 2000، كان لزاماً على الحزب، كحركة مقاومة حقّقت هدفها الأساسي، أن ينتقل إلى مرحلة جديدة تركّز على بناء الدولة عبر الانخراط الكامل في العملية السياسية، متخلّياً عن السلاح لمصلحة سيادة الدولة اللبنانية.
بيد أنّ ما حدث هو أنّ الحزب، وبدل تعديل طبيعته العسكرية، أجرى تعديلاً جذرياً على أهدافه، مصرّاً على إبقاء السلاح واستثمار مفهوم “المقاومة” لأهداف سياسية وعسكرية، تخدم مصالح إيران الإقليمية وبتناقض تامّ مع المصالح الوطنية اللبنانية.
لا شيء أكثر من ضياع البداهات في المشهد اللبناني المعقّد يسهم في تعميق الانقسامات وإضعاف الدولة وتأبيد معاناة الناس
ظهر ذلك جليّاً في اغتيال الحزب الرئيس رفيق الحريري عام 2005، كجزء من مشروع التوسّع الإيراني في المشرق العربي، وما تلاه من انقلاب داخلي على كلّ معادلات النظام السياسي اللبناني ثمّ الانخراط في كلّ حروب المنطقة بدءاً من الحرب السورية مروراً بالحرب السياسية على الخليج العربي وصولاً إلى الانخراط في حرب اليمن وغيرها!
إزاء جعلهم المعاناة المستمرّة طريقاً لا نهاية له نحو الكرامة والتحرير والشرف، يجدر القول إنّ مآسي اللبنانيين الراهنة ليست مصائر حتمية بل نتاج قرارات محدّدة كان يمكن تفاديها، لو أنّ الحزب اختار استراتيجية أقلّ ارتباطاً بالأجندات الإقليمية وأكثر التصاقاً بمصالح لبنان الحقيقية.
إعادة تصويب الأفكار
لا بدّ من تكرار التأكيد على هذه البداهة كمدخل أساسي لإعادة تصويب أفكار وتوجّهات ومشاعر اللبنانيين في ظلّ الحرب القاسية التي يتعرّض لها البلد. فلا شيء أكثر من ضياع البداهات في المشهد اللبناني المعقّد يسهم في تعميق الانقسامات وإضعاف الدولة وتأبيد معاناة الناس. وأكاد أقول إنّ العودة إلى البداهات مسار لا بدّ منه لإعادة الاستقرار للهويّة الوطنية اللبنانية.
ما عاد مقبولاً لمآسي اللبنانيين، لا سيما في شكلها الآنيّ الذي يبدّد كلّ مرتكزات الكرامة والحماية والاستقرار، وكلّ ما يدّعي الحزب حمايته عبر ما يسمّى المقاومة، إلّا أن تكون شاهداً على انهيار الشرط الأخلاقي لهذه المقاومة. ففي ضوء البؤس الذي أفضت إليه سياسات وقرارات الحزب، لا سيما ما يتعلّق منها بالتدخّل في الصراعات الإقليمية وخدمة أجندات إيران، تعمّقت معاناة اللبنانيين، ولحق الدمار بالبنية التحتية لبلادهم، وزادت عزلتهم الدولية، وتدهور اقتصادهم.
بات لبنان معتمداً على الدعم الدولي والعربي للوفاء بأدنى احتياجات أبنائه، في حين أنّ تصريحات إيران حيال البلد تنضح “بأنتن” مفردات الوصاية والاستتباع وازدراء السيادة.
الشرط الأخلاقي البديهي للمقاومة هو أن تكون المقاومة في خدمة الناس، لا أن يصبح الناس وقوداً لمعاركها، حين تصير المقاومة غاية بحدّ ذاتها، يُضحّى لأجلها
هدف قابل للتّحقيق
تكتسب التضحيات أسمى معانيها وأوثق مشروعيّاتها عندما ترتبط بهدف ملموس قابل للتحقّق، يبرّر المعاناة والخسارة بوعد تحقيق إنجاز ملموس وذي مغزى. تشهد تضحيات بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية لمصلحة هذا المبدأ البديهي. فلم تلِن عزيمة البريطانيين، على الرغم من المحن الهائلة التي واجهوها، لأنّ غاية الصمود حينها، أي هزيمة النازيين والحفاظ على حرّية بريطانيا، كانت غاية واضحة قابلة للتحقّق.
إقرأ أيضاً: ما لم يواجهه الحزب من قبل
حين تصبح المقاومة هدفاً بحدّ ذاته، بلا أيّ صلة بتحقيق نتائج عملية واقعية، ويتمّ تعريف انتصاراتها بقدرتها على الاستمرار فقط، تفقد التضحية معناها لتصير مطحنة للنفوس والأرواح والأرزاق وتستوي دعوات الصمود مع دعوات الانتحار الجماعي مع ما يلازمها من تجريد الأفراد والمجتمعات من الأمل.
الشرط الأخلاقي البديهي للمقاومة هو أن تكون المقاومة في خدمة الناس، لا أن يصبح الناس وقوداً لمعاركها، حين تصير المقاومة غاية بحدّ ذاتها، يُضحّى لأجلها بكلّ شيء، وأولى التضحيات تكون بالكرامة.
لمتابعة الكاتب على X: