إنّه واحد تشرين الثاني 2024.
اليوم الأوّل، من السنة الثالثة من الفراغ الرئاسي الرابع في ما بقي من دولة لبنان.
وللمصادفة، هو عيد جميع القدّيسين، والذكرى الثمانون لولادة رفيق الحريري.
سنة ثالثة لن تكون ثابتة إطلاقاً. بل هي مُشرفة منذ بداياتها على كلّ المخاطر والزلازل. إلّا إذا…
الفراغ الرئاسي هو الرابع على اعتبار أنّ شغور 1952 بعد استقالة الرئيس بشارة الخوري لم يُحدث فراغاً. كانت الأجواء الداخلية والخارجية على ما يكفي من وعي ومسؤولية وقدرة قرارٍ وحسم. وكان في قيادة الجيش من كان يُسمّى “قدّيس صربا”. تسلّم الجنرال فؤاد شهاب الحكومة الانتقالية لساعات. أربعة أيام فقط كانت كافية لانتخاب كميل شمعون رئيساً، لتستمرّ الدولة.
الفراغات الرئاسية الثلاثة التالية لم تكن بالسلاسة نفسها. بل ترك كلٌّ منها ندوباً كبيرة في وجه الجمهورية وجسم نظامها وكيفية عملها.
الفراغ الأوّل بين 23 أيلول 1988 و5 تشرين الثاني 1989 انتهى إلى أقسى الكوارث في تاريخ لبنان الراهن. اغتيل رئيس الطائف رينيه معوّض. تفجّر صراعٌ مدمّر حتى الجنون بين المسيحيين. واستمرّ صراعٌ آخر مماثل بين قوّتيْ الشيعة، “أمل” والحزب. فحصل الانقلاب على “وثيقة الوفاق الوطني”، نتيجة سقوط توازناتها المحلّية والإقليمية والدولية. فاجتاح حافظ الأسد كلّ لبنان. وظلّ جيشه جاثماً على صدره 15 سنة كاملة، بعد ذاك السبت من تشرين الأوّل 1990. فسقطت الجمهورية الأولى كلّياً. ولم تقُم جمهورية الطائف لحظة.
بوش الابن والأسد الابن
دارت بعدها الأيام، وعاد والتقى ابن بوش الأب مع ابن الأسد الأب، على صراع العراق سنة 2003. وفي المرّة الثانية تفرّق الابنان. ولم يكرّرا اتّفاق والديهما ضدّ صدّام سنة 1990. فأُخرِج الأسد من لبنان. واستعاد بلد الأرز فرصة تكوين دولة، بثمن دماء رفيق الحريري وشهداء كثر، لكن ضمن سياق إقليمي ودولي حاسم.
الفراغ الأوّل بين 23 أيلول 1988 و5 تشرين الثاني 1989 انتهى إلى أقسى الكوارث في تاريخ لبنان الراهن
لكنّ الفراغ الرئاسي الثاني لم يتأخّر حتى أطلّ. خرج إميل لحّود من بعبدا في 24 تشرين الثاني 2007، وظلّ القصر شاغراً. عاد الصراع إلى الشارع. وتصاعد التوتّر حتى بات منذراً بالصدام.
لأنّ التوازنات الداخلية والإقليمية تبدّلت، بل انقلبت في بعض نواحيها، ما كان الصِدام هذه المرّة بين المسيحيين، ولا بين الشيعة، كما في الفراغ الأوّل، بل بين الشيعة والسنّة والدروز، بدءاً من 7 أيار 2008.
انقضت أيّام قليلة لكنّها كانت دامية حتى الحفر في الوجدانات، قبل أن تنتهي إلى قبول الحزب بمن رشّحه “تيّار المستقبل” للرئاسة بعد 48 ساعة على الشغور. لكن مقابل سقوطٍ ثانٍ لمنطوق اتّفاق الطائف نتيجة التشوّهات المفروضة في الممارسة والتطبيق لاتفاق الدوحة.
دارت الأيام مرّة أخرى، وخرج ميشال سليمان من القصر في 25 أيار 2014، ليظلّ شاغراً هذه المرّة 30 شهراً وأسبوعاً بالتمام حتى جاء ميشال عون رئيساً على قاعدة الرئيس الأقوى ضمن مكوّنه، والرئيس الأقدر على جمع كلّ اللبنانيين حول مفاهيم الدولة والدستور ووثيقة الوفاق، وحول مبادئ السيادة والشفافية والمواطنة والاستراتيجية الدفاعية، وغيرها من قيم وضعت في خطاب القسم، كما توضع نيّات اليائسين الراجين في زجاجات مُحكمة الإغلاق وتُرمى في محيط هائل… وتضيع!!
انتهى عهد ما بعد الفراغ الرئاسي الثالث بشيء من الفراغ المطلق. بل هو فراغ في كلّ شيء، في المؤسّسات والبنى والإدارات، فراغ في النفوس والنصوص، كما علكت عقولنا ذاك الجِناس النزاعيّ اللبناني القديم، فراغ في الاقتصاد والنقد والقضاء والأمن، وفراغ في السيادة والدبلوماسية والحدود، حتى بلغنا الفوضى الكاملة، “كايوس” كوزمولوجيّ مستمرّ منذ عامين كاملين ويوم.
الفراغ الرّابع
لم يكن ينقص الفراغ الرابع إلّا حرب غزة، وبعدها زجُّ لبنان فيها لأسباب وحسابات لم تُكشف بعد ولنتائج كارثية تتكشّف كلّ يوم وساعة ولحظة:
الفراغات الرئاسية الثلاثة التالية لم تكن بالسلاسة نفسها. بل ترك كلٌّ منها ندوباً كبيرة في وجه الجمهورية وجسم نظامها وكيفية عملها
ها نحن نقترب من 3 آلاف شهيد، ومن 15 ألف جريح، ومن مليون ونيّف مشرّد نسمّيه خجلاً من ذاتنا نازحاً، و20 مليار دولار خسائر، في بلد لم يعد ناتجه يتخطّى 15 ملياراً سنوياً، وضياع مجتمعيّ وقلق وجودي ومآزق أكبر من كلّ الأرقام.
فراغ رابع يُنذر بضياع دولة وبلد في وطن صار عالقاً بين توحّش أشرس بربرية معاصرة على حدودنا الجنوبية، وبين تعنّت كلّ القادرين على وقف الحرب، من لاعبين محلّيين أو إقليميين، غارقين بين المكابرة والإنكار، فيما شعبنا، شعبهم، ينزف موتاً عبثيّاً مجّانياً، بينما قوى العالم منهمكة بأولويّات مختلفة حتى اللامبالاة.
فراغ رابع تبدو مؤدّياته واضحة ومحسومة. فحجم الحروب الدائرة في المنطقة، وعلى حدودنا بالذات، لا يمكن أن تُقفل على تسويات وسطية بعد اليوم. وهو ما يجزم أنّنا ذاهبون إلى مشهد جديد، المؤكّد فيه سيكون إقفال ملفّ الصراع في جنوب لبنان، أيّاً كانت موازين القوى فيه وبالتالي نتائج معركته. إنّها آخر معارك جنوب لبنان. بعدها إمّا سيادة كاملة هناك. وإمّا ضياع كامل. ووفق المعادلة نفسها، سينسحب مشهد الجنوب على لبنان كلّه: إمّا سلطة دولة، وإمّا حروب دويلات.
مع الدولة ينتصر الجميع. مع الدويلات وحروبها يخسر الجميع حتماً، كما فعلوا منذ 1975 حتى 1990 وحتى 2005 وحتى اليوم.
إنّه واحد تشرين الثاني 2024. اليوم الأوّل، من السنة الثالثة من الفراغ الرئاسي الرابع في ما بقي من دولة لبنان
ما بين المسارين
ما الذي يفرّق بين المسارين؟ أمران.
1- رئيسٌ رئيس. أي رجلٌ يُعطي اسمُه للناس إحساساً بأنّهم يمكنهم ترك حقيبة الرحيل جانباً، وتأجيل موعد الهروب النهائي، وانتظار ما قد يتغيّر. ويعطي للدولة إشعاراً بأنّها عادت إلى دوام العمل، كأنهّا فعلاً دولة. ويعطي للعالم إشارة حياة بأنّ هذا المكان المُسمّى لبنان لم يمُت بعد. وبالتالي يمكن التفكير في ضخّ نفَس تجريبي في جسده المقاوم.
إقرأ أيضاً: رباعيّ نتنياهو في واشنطن… ونصيحة لبيروت!
2- أن نُقبل كلّنا، وأن نَقبل كلّنا، بضرورة العودة إلى تلك الدولة، “مواطنين طبيعيين”، تحت كلّ القوانين، وفوق أيّ غرائز أصغر من لبنان أو أكبر منه.
كلام طوباويّ؟! بل كلام ضروري. بعده، أو من دونه، حضّروا حالكم لمتاريس الجنون والتدمير الذاتي الكامل، حيث لا قدّيسون ينفعون، ولا إحياء بعدها لمناسبات إلّا الموت المناسب.
لمتابعة الكاتب على X: