نهجان يقرآن أزمة لبنان. نهجٌ يرى أنّنا في مواجهة عمرها 1,400 عام. ونهجٌ آخر لبناني يرى أنّ الأزمة هي في كيفية إبقاء قضية فلسطين بوجه الإجرام الإسرائيلي، شرط بقاء الفلسطينيين.
صار جليّاً ومؤكّداً أنّنا في لبنان، وانعكاساً لوضع المنطقة والمحيط، صرنا أمام رأيين أو مدرستين أو نهجين، في ما يتعلّق بالصراع الراهن والمزمن مع إسرائيل:
الرأي الأوّل يعتبر أنّ تدمير إسرائيل لكامل غزّة وجنوب لبنان مؤشّرٌ إلى أنّها ضعيفة ومأزومة! وأنّ إسقاطها نحو مئة ألف فلسطيني هناك، ونحو 15 ألف لبناني هنا، دليلٌ قاطع على أنّ نهايتها باتت وشيكة، على اعتبار أنّها حتمية أصلاً.
أصحاب هذا الرأي وقادته عبّروا علناً ومراراً عن خلفيّات إيمانهم هذا:
إسماعيل هنية قال في كلمة متلفزة: “نحن بحاجة إلى دماء الأطفال والنساء”. وقصد طبعاً شحذَ الهمم بسقوطهم لمواصلة القتال.
يحيى السنوار قال في رسائله المكتشفة قبل فترة: “اليوم الذي لا دم فيه، لا عنوان لنا فيه”.
صار جليّاً ومؤكّداً أنّنا في لبنان، وانعكاساً لوضع المنطقة والمحيط، صرنا أمام رأيين أو مدرستين أو نهجين، في ما يتعلّق بالصراع الراهن والمزمن مع إسرائيل
المعركة بدأت… في خيبر
قبل أيام كرّر مسؤولون “ممانعون” من بيروت أنّ “سقوط المدنيين ليس تضحية تقارن بتضحيات القادة والمقاتلين”، وأنّ “سقوط المدنيين لا يخيفنا”.
فيما كان أحد المراجع يشرح تلفزيونياً السبب، مسهباً بأنّ الصراع أصلاً ليس في سبيل المدنيين والناس، بل “في سبيل الله”.
الخلاصة المنطقية لدى أصحاب هذا الرأي أنّه يجب الاستمرار بالطريقة والأسلوب نفسيهما.
لأنّ المعركة لم تبدأ في 7 أكتوبر ولا في 1967 ولا 1948، ولا مع وعد بلفور، المعركة بالنسبة إلى هذا النهج بدأت في خيبر*…
ولذلك يمكن، بل ربّما يجبُ، المثابرة عقوداً أو حتى قروناً بعد لحسم المعركة في أبعادها الإلهية تلك.
وهو ما يتطابق للمفارقة، مع رأي مماثل من جهة الصهيونية الدينية في المعسكر الآخر. رأي أكثر عنصرية وشوفينية وعدائية لكل آخر، باسم الله آخر.
كلّ هذا فيما “شيخ طريقة” هذا الرأي في طهران يتفاوض مع واشنطن، ويؤكّد “أخوّته لها”، واستعداده “لرمي السلاح إذا رمت إسرائيل سلاحها”. فلا خيبر هناك ولا من يخبرون أو يخيّرون. ويجزم حتى أمس بالذات أنّ “أولويّته إحلال ونشر السلام والاستقرار والطمأنينة في المنطقة”.
قبل أيام كرّر مسؤولون “ممانعون” من بيروت أنّ “سقوط المدنيين ليس تضحية تقارن بتضحيات القادة والمقاتلين”، وأنّ “سقوط المدنيين لا يخيفنا”
الرّأي اللّبنانيّ الآخر
لكنّ رأياً آخر كان موجوداً دائماً لبنانياً وعربياً. وهو اليوم بات أعلى سماعاً. رأي يقول إنّ هناك كياناً غاصباً، وعدوّاً غاشماً، وهو اليوم بقيادة مجرم حرب متوحّش، لكنّه عدوّ أوّلاً لقضية حقٍّ إنساني وعربي ووطني، هي قضية وطن اسمه فلسطين، وقضية شعب اسمه الفلسطينيون. وبالتالي الانتصار على هذا العدوّ شرطه الأوّل أن تبقى فلسطين في الجغرافيا لا أن تدخل التاريخ، وأن يبقى الفلسطينيون أحياء لا شهداء.
التباين بين النهجين بات واضحاً في لبنان.
الرأي الأوّل يمثّله نظام الملالي بكلّ تفرّعاته. خامنئي تحدّث صراحة لنا عن حرب الحسينيّين واليزيديّين.
وبالتالي هو يطلب من الناس في غزّة ولبنان الاستمرار في التضحية.
الرأي الآخر بات يمثّله في لبنان اليوم كثيرون. نبيه بري أوّلهم. معه نجيب ميقاتي ووليد جنبلاط وآخرون. رأيٌ يقول بحماية لبنان وحماية جنوب لبنان، وإنقاذ الجنوب والجنوبيين، وتجنيبهم الموت مجّاناً والتدمير عبثاً والتشريد هباءً.
في الأيام الماضية كان واضحاً أنّ الرأي الأوّل نفّذ إنزالاً جوّياً في بيروت على مرحلتين. عراقتشي، ثمّ قاليباف. والمهمّة هي إجهاض مبادرة الحلّ اللبناني.
“ما يحصل حالياً يجب أن يكون درساً لجميع الأطراف اللبنانية” بأنّ النأي بلبنان عن الصراعات الخارجية هو المطلوب
الرّأي اللّبنانيّ يراكم النّقاط
لكنّ الواضح أنّ المسعى مستمرّ، وأنّ التعطيل لم يكن كلّياً ولا نهائياً. بل بدا أنّ “الرأي اللبناني” راكم نقاطاً كثيرة في سلسلة لا تنتهي من المواقف:
– على المستوى الداخلي:
1- كلام ميقاتي المتلفز عن “بسط سيادة الدولة على أراضيها وعدم وجود سلاح غير سلاح الشرعية اللبنانية”. ثمّ كلامه أمام رئيسة حكومة إيطاليا عن أنّ “لبنان دفع ويدفع فاتورة غالية ثمن الصراعات الخارجية”، وأنّ “ما يحصل حالياً يجب أن يكون درساً لجميع الأطراف اللبنانية” بأنّ النأي بلبنان عن الصراعات الخارجية هو المطلوب، وأنّ سيادة الدولة اللبنانية على أراضيها هي الحلّ لكلّ المشكلات القائمة. وصولاً طبعاً إلى ردّه السيادي على قاليباف. وهي سلسلة مواقف يدرك الجميع أنّ بصمات الرئيس بري حاضرة فيها تنسيقاً واطّلاعاً مسبقاً على الأقلّ.
2- مشاركة برّي نفسه في قمّة بكركي عبر ممثّلين اثنين للطائفة الشيعية بعد طول قطيعة وسجالات، ومشاركته في صياغة بيان بكركي في تأكيده على “الدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة وقرارها الحرّ”، وعلى ضرورة “عودة اللبنانيين، وكفريق واحد متضامن، إلى ما تقتضيه مصلحتهم الواحدة ومصلحة لبنان. وذلك بشروط الدولة اللبنانية وتحت رعايتها. وهذا يعني أن تُمسك الدولة بالقرار الوطني وتُدافع عن سيادتها الوطنية وعن كرامة شعبها، وأن تكون صاحبة السلطة الوحيدة على كامل التراب اللبناني”.
3- كلام جبران باسيل، حليف “الحزب”، عن أنّ “معركة إسناد غزّة قدّمت لإسرائيل الإطار الكامل لضرب لبنان”، وأن “لا سند قانونياً لها”، و”لم يكن لها أيّ هدف لبناني”، بل “أفقدت لبنان معادلة الردع” بعدما “فشل قرار وحدة الساحات بحماية لبنان”، فيما “إيران لا تعتبر لبنان جزءاً من أمنها القومي”… فيما ينقل عن الرئيس ميشال عون كلام أبعد وأعلى وخارق لكلّ سقوف “التفاهمات” السابقة.
باسيل: “معركة إسناد غزّة قدّمت لإسرائيل الإطار الكامل لضرب لبنان”
الإقليم والعالم يجتمعان على الرّأي اللّبنانيّ
هذا كيلا نصل إلى مواقف القوى الرافضة أصلاً لمنطق “الممانعة”.
– على المستوى الإقليمي:
1- كلّ ما يجري في سوريا منذ النأي عن 7 أكتوبر حتى الإجراءات الأخيرة حيال الانتشار الإيراني ووجود الحزب على أرضها، بعد رسالة عزاء باستشهاد السيد حسن نصرالله، موجّهة من بشار الأسد إلى “المقاومة الوطنية اللبنانية. عائلة الشهيد حسن نصرالله”!! والذي يعرف القاموس الدمشقي يدرك مغازي تلك الكلمات.
فيما لم يُعلن بعد عن أيّ تعزية سورية رسمية بالسنوار!!
2- الانسحاب الروسي من الجولان ومن مواقع وُصفت بأنّها استراتيجية في ريف درعا الشمالي وريف القنيطرة، وصولاً إلى الطلب الروسي بإخلاء الميليشيات الإيرانية من مطار دير الزور العسكري.
3- حتى إيرانياً، بلغ التبرّؤ والتنصّل حدَّ ما يشبه الشكوى الإيرانية ضدّ الحزب في الأمم المتحدة بالذات، حول ضرب قيسارية ومنزل نتنياهو.
– على المستوى الدولي:
قمّة برلين وبيانها وحراكها. المسوّدات المسرّبة لقرار أممي جديد لبنانياً.
كلام ماكرون الكبير جدّاً عن إيران والحزب، ضمن دعوته إلى مؤتمر لبنان هذا الأسبوع في باريس، وقوله إنّ “إيران قامت بخيار لئيم (choix cynique) بتعريض اللبنانيين لحماية نفسها”، وإنّ “على الحزب استخلاص النتائج. عليه واجبات. أوّلها التخلّي عن السلاح. عن الإرهاب. وعن العنف. والسماح للّبنانيين بأن يلتقوا لمعالجة أزماتهم المتعدّدة”.
وهو كلام لا يلقى أيّ إجماع لبناني طبعاً. لكنّه لاقى تجاوباً لبنانياً رسمياً بالموافقة على المشاركة في مؤتمره.
كلّ المؤشّرات تدلّ على أنّنا ذاهبون إلى استحقاق كبير في لبنان، وربّما في المنطقة، استحقاق يقتضي حسم مسألة داخلية فعلية وجدّية، لا مجازية ولا اتّهامية ولا تشكيكيّة
لبنان أم كربلاء؟
كلّ المؤشّرات تدلّ على أنّنا ذاهبون إلى استحقاق كبير في لبنان، وربّما في المنطقة، استحقاق يقتضي حسم مسألة داخلية فعلية وجدّية، لا مجازية ولا اتّهامية ولا تشكيكيّة:
ما هي قضيّتنا؟ فلسطين أم خيبر؟!
لبنان أم كربلاء؟!
وحده نبيه بري يبدو مدركاً لدقّة تلك المسألة وحساسيّتها الفائقة وملامستها خطوط تفجير داخل الدواخل.
إقرأ أيضاً: نهاية يحيى: إنسانٌ “غيبيّ”… هَزَمَهُ العلم
لذلك يبدو كمن يسير في حقل ألغام، ومهمّته تفكيك كلّ لغم، والعبور سالماً إلى ضفّة الأمان في آن، بلا احتكاك بأيّ عبوة، ولا تعريض أيّ محتكٍّ بها، خصوصاً من المعبَّئين من كلّ طرف.
الباقي كلّه يبدو من عدّة الشغل لهذه المهمّة المصيرية.
* خيبر: مدينة سعودية. وقعت فيها معركة المسلمين مع اليهود في السنة السابعة للهجرة.
لمتابعة الكاتب على X: