“إيكونوميست” عن “تجارة النّفط السريّة التي تموّل حروب إيران” (1/2)

مدة القراءة 10 د

ما هو النظام الذي من خلاله تبيع إيران نفطها بطريقة سريّة، وتقبض ثمنه، وتوزّعه على ميليشياتها، خارج النظام المصرفي الدولي؟ وكيف تستطيع إدارة هذه العملية المعقّدة، عبر الكوكب، من دون أن تكشفها أو تتمكّن العيون الغربية من منعها؟ وهل يمكن للبلدان التي تفرض عليها عقوبات أن توقف هذه الدولة التي تنتج لها عشرات مليارات الدولارات سنوياً لتوزيعها على الحرس الثوري وعلى أذرعها في المنطقة؟

في حالة الحرب مع إسرائيل، ستحتاج إيران إلى المال. ليس فقط لشراء الأسلحة والحفاظ على استدامة اقتصادها، بل أيضاً لإعادة تسليح الجماعات التابعة لها مثل حماس والحزب. يفترض كثيرون أنّه بعد سنوات من العقوبات ستعاني إيران. وهم مخطئون، ففي كلّ عام، وفقاً لتحقيق أجرته مجلّة إيكونوميست البريطانية عن شبكة بمليارات الدولارات تتحدّى العقوبات الأميركية، تحوّل إيران عشرات المليارات من الدولارات من مبيعات النفط غير المشروعة إلى حسابات مصرفية في جميع أنحاء العالم. وقد تمّ استخدامها لتمويل هجوم حماس على إسرائيل، وأسراب الطائرات الروسية بدون طيار في أوكرانيا والبرنامج النووي الإيراني، وأدّت إلى تأجيج العديد من الأزمات ويمكن أن تؤجّج أخطرها قريباً…

في حالة الحرب مع إسرائيل، ستحتاج إيران إلى المال. ليس فقط لشراء الأسلحة والحفاظ على استدامة اقتصادها، بل أيضاً لإعادة تسليح الجماعات التابعة لها

يظهر تحقيق “إيكونوميست” الذي استند، كما تدّعي، إلى معلومات من أشخاص لديهم معرفة مباشرة بنظام النفط الإيراني، بما في ذلك مسؤولون سابقون عن ملفات العقوبات، ومطّلعون إيرانيون، ومتخصّصون في المخابرات، ومحرّرون في موقع “ويكيران” التابع لجهة خارجية والمتخصّص بالتسريبات، أنّه كان لدى ايران في تموز الماضي 53 مليار دولار، و17 مليار يورو (19 مليار دولار)، ومبالغ أصغر من العملات الأجنبية الأخرى في الخارج. وأنّ البلاد بنت قنوات ظلّ ماليّة موازية مترامية الأطراف، تمتدّ من منصّات النفط إلى الخزائن الافتراضية للبنك المركزي. وأنّ الصين، المشتري الرئيسي لنفط إيران، هي مهندسة هذا النظام والمستفيد الرئيسي منه، وأنّ البنوك العالمية والمراكز المالية غالباً ما تستخدم دون علم منها كواجهات حيويّة.

لفهم كيف يمكن لإيران جمع الأموال، يسلّط تحقيق المجلّة الضوء على اقتصادها النفطي. فبعدما انهارت صادرات النفط الخامّ الإيرانية عندما أعادت إدارة دونالد ترامب السابقة فرض الحصار على إيران قبل 6 سنوات، عادت وتضاعفت اثنتي عشرة مرّة إلى 1.8 مليون برميل يومياً في أيلول لتحقّق مبيعاتها في العام الماضي ما بين 35 و50 مليار دولار. أضافت إليها صادرات البتروكيماويات مبلغ 15 إلى 20 مليار دولار أخرى.

لكن إذا كان من الصعب تهريب النفط على مئات الناقلات، وأكثر صعوبة غسل مليارات الدولارات سرّاً عبر النظام المصرفي العالمي في وقت تراقب فيه أميركا جميع المصارف، حتى الأجنبية منها، التي تجري المعاملات بالأوراق المالية الخضراء، فكيف يتمّ الدفع لإيران؟ وكيف تتحرّك وتخزّن وتنفق مثل هذه المبالغ من الأموال؟

عندما يريد مصدّر نفط الحصول على أمواله، يرسل بريداً إلكترونياً إلى شركة الصيرفة المفضّلة لديه، موضحاً المبلغ الذي يحتاج إلى تسلّمه ومن هو المتسلّم

إيران وتكتيكات كارتيلات المخدّرات

يشبّه تحقيق المجلّة “تكتيكات إيران بتلك التي تستخدمها كارتلات المخدّرات لتسويق المنتجات وإعادة تدوير العائدات في مشاريع مشبوهة، غالباً من خلال أعمال مشروعة ظاهرياً”. ويوضح: “تصدّر أغلب الدول النفطية النفط عبر شركة عملاقة مملوكة للدولة، لكنّ إيران مختلفة. إذ تحتكر الإنتاج شركة النفط الوطنية الإيرانية، وهي شركة النفط المملوكة للدولة. وتساعد شركة نفط إيران إنترتريدNaftiran Intertrade Company  التابعة لشركة النفط الوطنية الإيرانية ومقرّها سويسرا، في تسويق النفط في الخارج. ومع ذلك، يتمّ تخصيص حصّة متزايدة منه للوزارات الإيرانية والهيئات الدينية وحتى صناديق التقاعد حتى يتمكّنوا من بيعه بأنفسهم، الأمر الذي يشبّهه مسؤول أميركي سابق “بالعصور الوسطى حيث يتمّ منح اللوردات أجزاء من المملكة”.

يضيف التحقيق: “في بلد يفتقر إلى العملة الصعبة، يشكّل النفط الخام شكلاً بديلاً للسيولة. سمحت ميزانية إيران في العام الماضي للقوات المسلّحة ببيع نفط بقيمة 4.9 مليارات دولار. كما تكافئ المخصّصات الموالين: في عام 2022 عُرض على الأفراد المعتمدين من النظام ما مجموعه 3.6 مليارات دولار من النفط. كما يتلقّى الحرس الثوري الإسلامي كمّية كبيرة من النفط، غالباً خارج السجلّات الرسمية. وبحسب مسؤول إيراني سابق حقّق فيلق القدس، الجناح الخارجي للحرس الثوري الإسلامي، 12 مليار دولار من مثل هذه المبيعات في عام 2022”.

لكلّ هذه الكيانات قنوات بيع منفصلة، على الرغم من أنّ شركة نيكو والحرس الثوري الإيراني غالباً ما يقدّمان خدماتهما للآخرين. في بعض الأحيان، تدير شركة وهمية كلّ شيء. وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية، تدير شركة Sahara Thunder في إيران مبيعات للقوات المسلّحة بينما تتظاهر بأنّها شركة تجارية خاصّة. تعهد إيران بانتظام بمبيعاتها إلى طرف ثالث في الخارج، مثل ASB، وهي شركة تركية، وفقاً لوزارة العدل الأميركية. لكنّ إيران تصرّ على الضمانات. نقلت شركة Baslam، وهي شركة تابعة لشركة ASB، 51% من أسهمها إلى قوّة القدس عندما بدأت العمل لمصلحتها، وفقاً لعقد تمّ الكشف عنه بين ASB وقائد الحرس الثوري الإيراني.

سمحت ميزانية إيران في العام الماضي للقوات المسلّحة ببيع نفط بقيمة 4.9 مليارات دولار

الاعتماد على الصّين

يؤكّد التحقيق مدى اعتماد بقاء إيران الاقتصادي على الصين، حليفها الأقوى في المحور المناهض للغرب. لكنّ الصين أكثر اهتماماً بإبرام صفقة جيّدة، فتعرض المساعدة، مستغلّة موقف إيران الضعيف، ما دامت لا تخاطر بإحراق جسور مهمّة مع أميركا، منافستها الجيوسياسية، لكن أيضاً شريكتها التجارية الكبرى، وتوفّر الظروف المثالية لازدهار التهريب الإيراني، دون أن تظهر رسمياً على الإطلاق أنّها متورّطة فيه.

لكن على الرغم من أنّ الصين تستوعب 95% من صادرات إيران من النفط الخام، فإنّ شركاتها الحكومية الحذرة من العقوبات لا تريد لمس النفط. لذلك تقوم ثلاث أو أربع “شركات واجهة” إيرانية باستكشاف السوق. تظهر الوثائق التي شاركها أحد المصادر أنّ شركتي  Litamos International Limited  وHaosi Trade Limited، نفّذتا هذه المهمّة حتى عام 2021، عندما تمّ حلّهما. بينما لدى الصين سماسرتها، الذين يقوم عملاؤهم بتزويد المصانع التي رخّصت لها الدولة لمعالجة النفط الإيراني، ومعظمها مصافٍ صغيرة ومستقلّة تسمّى “أباريق الشاي”.

عند العثور على مشترٍ يتمّ توقيع اتفاق رسمي يكون عادة بين شركتين وهميّتين. ونظراً للمبالغ الضخمة، إذ يمكن أن تكلّف شحنة النفط الخامّ الإيراني بسهولة 50 مليون دولار إلى 100 مليون دولار، لا يمكن القيام بالأعمال على أساس الثقة. وتحدّد الوثائق كلّ التفاصيل، من التشغيل التجريبي وجداول التفتيش إلى حجم الشحنات المستقبلية. السعر مشابه عموماً لسعر خام برنت، وهو المعيار العالمي للنفط، ناقصاً حسماً يراوح بين 10 و30 دولاراً للبرميل. وتشمل العملات المقبولة الدولار، وفي حالات نادرة اليورو أو الدرهم الإماراتي أو الين. لكن ما لا تذكره العديد من العقود هو منشأ النفط، والذي عادة ما يذكر زوراً أنّه عراقي أو ماليزي أو عماني. وغالباً ما يتمّ تأكيد المنشأ الفعليّ في رسالة سرّية، مع كتابة الطبيعة الحقيقية للصادرات بأحرف كبيرة: النفط الإيراني.

يؤكّد التحقيق مدى اعتماد بقاء إيران الاقتصادي على الصين، حليفها الأقوى في المحور المناهض للغرب

100 “شركة واجهة” لبيع نفط إيران

بحسب أحد المصادر للمجلّة، “هناك أكثر من 100 شركة واجهة تعمل على شراء ناقلات النفط. وغالباً ما تكون سفناً قديمة ترفع علم بنما، وهو ميناء متساهل، وقد أعيدت تسميتها لإرباك أجهزة التعقّب. وتبدأ السفن بالتقاط النفط من إحدى محطّات التصدير الإيرانية. ولتجنّب لفت الانتباه، فإنّها غالباً ما تستعير أجهزة إرسال واستقبال لسفن أخرى تدور حول المنطقة، أو تستخدم برامج كمبيوتر لجعلها تبدو وكأنّها في مكان آخر. ثمّ تبحر السفن إلى العراق أو عُمان، حيث قد يتمّ نقل حمولتها إلى سفينة جديدة. وقد تحدث إعادة شحن أخرى قبالة ماليزيا أو سنغافورة، وبعد ذلك تتّجه الشحنة إلى الصين”.

في كلّ مرحلة من هذه المراحل يتلقّى العملاء الإيرانيون تقارير تُحال إلى كبار المسؤولين، الذين قد يختبئون وراء ألقاب (“روجر”، في مثال حديث لقائد في الحرس الثوري الإيراني) في رسائل واتساب والملاحظات الصوتية. ويتمّ توفير شهادات المنشأ والأوراق المزيّفة طوال العملية. وحتى الأجزاء الأكثر سرّية من الرحلات تتمّ إدارتها عن كثب. وتضمّنت إحدى قوائم المراجعة، التي شاركها أحد المصادر، 24 سؤالاً عن إعادة شحن قبالة ماليزيا تتعلّق بـ Remy ريمي، المعروفة الآن باسم ويلما 2Wilma II، وهي ناقلة تشير معلومات التتبّع من شركة بيانات Kpler، إلى أنّها تحمل النفط الخام الإيراني.

في بعض الأحيان تسوء الأمور. قد تفشل عملية البيع مع انطلاق الناقلة. وقد تختفي الشحنة أحياناً، وهو ما يؤدّي إلى تهديدات بالعنف من قادة الحرس الثوري الإسلامي. يتمّ التخلّي عن بعض السفن ببساطة. غير أنّ البضائع تُسلَّم عموماً دون مشاكل ويستحقّ الدفع في غضون 45 يوماً. وهنا يأتي دور نظام الظلّ المصرفي الإيراني، الذي يمثّل إنجازاً بيروقراطياً بارعاً. إذ أنّه، بحسب مصدر مطّلع على الشركات النفطية الكبرى في البلاد، بما في ذلك شركة النفط الوطنية الإيرانية وشركة “بي.سي.سي”، وهي شركة تصدير رئيسية للبتروكيمياويات تسيطر عليها وزارة الدفاع، لدى هذا النظام إدارات ماليّة ضخمة تعمل كبنوك. وقد قامت بتأسيس شركات في إيران، يطلق عليها اسم شركات “الصيرفة”، تدير المدفوعات الأجنبية غير المشروعة ليس فقط لمصدّري النفط، بل ولأجزاء كبيرة من الاقتصاد الإيراني. فهي بدورها أنشأت شركات واجهة (صندوق ائتمان trust) هدفها جمع وتحويل الأموال تتّخذ لها مقرّات في مختلف أنحاء العالم. وتحمل أغلبها أسماء عشوائية مثال شركتَي “رينبو إنترناشيونال كوميرشال” «Rainbow International Commercial Company» أو “غلوريوس غلوبال ليمتد” «Glorious Global Limited»، ومقرّهما هونغ كونغ. يقتصر دور المالك المعلن عنه على الاتّصال بالسلطات المحلّية وتوفير وكلاء للإيرانيين أو العملاء الإيرانيين. وبحسب مسؤول إيراني سابق فإنّ نحو 200 إيراني يحملون جوازات سفر مزدوجة يشرفون على مثل هذه الشركات في أوروبا.

بحسب أحد المصادر للمجلّة، “هناك أكثر من 100 شركة واجهة تعمل على شراء ناقلات النفط. وغالباً ما تكون سفناً قديمة ترفع علم بنما

عندما يريد مصدّر نفط الحصول على أمواله، يرسل بريداً إلكترونياً إلى شركة الصيرفة المفضّلة لديه، موضحاً المبلغ الذي يحتاج إلى تسلّمه ومن هو المتسلّم. ثمّ تتحقّق هذه الشركة من الأرصدة عبر شبكتها لتحديد المكان الذي تفضّل أن تصل إليه الأموال. ثمّ تطلب من شركة النفط إبلاغ عميلها بأنّه يجب أن يتوقّع فاتورة من صندوق ائتمان باسمه. ويتمّ سداد بعض المدفوعات باليوان الذي تعيد إيران تدويره داخل الصين. ولكنّ اليوان غير قابل للتحويل، ولا يمكن لإيران شراء الكثير من الصين. لذا غالباً ما تطلب الشركات الإيرانية العملة الصعبة. وتعمل الآلية نفسها في الاتّجاه الآخر أيضاً، فتسمح للشركات الإيرانية بدفع ثمن الواردات سرّاً.

إقرأ أيضاً: فريدمان: وفاة السّنوار لحظة تاريخيّة لحلّ الدّولتين

مواضيع ذات صلة

فريدمان: وفاة السّنوار لحظة تاريخيّة لحلّ الدّولتين

يرى المحلّل والكاتب السياسي الأميركي توماس فريدمان أنّ “وفاة زعيم حماس يحيى السنوار. تتيح إمكانية اتّخاذ أكبر خطوة نحو حلّ الدولتين بين الإسرائيليين والفلسطينيين منذ…

فريدمان: ماذا يقول بيرنز لرئيس الاستخبارات الإيرانيّة؟

لماذا لا ترسل واشنطن مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بيل بيرنز للقاء نظيره الإيراني على أرض محايدة في مسقط، عاصمة عُمان، مع استراتيجية حقيقية للدبلوماسية…

لابيد يدعو لإنشاء جيش جديد في الجنوب

يعتقد زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد أنّ “الحرب المستمرّة بين إسرائيل والحزب هي فرصة، وربّما الأخيرة، للبنان ليصبح دولة طبيعية مرّة أخرى”. لكنّ ذلك يتطلّب…

هوف: الحلّ بخليط بين 1701 وهدنة 1949

“لا تدع أزمة جيّدة تذهب سدى”. هذه العبارة المنسوبة خطأً إلى ونستون تشرشل، تنطبق، في رأي الدبلوماسي الأميركي العتيق فريدريك هوف، بشكل خاص على الأزمة…