“الأولة آه… والغدر لمن حكم صبح الأمان بقشيش
والتانية آه… والندل لما احتكم يقدر ولا يعفيش
والتالتة آه… والحر مهما انحكم للندل ما يوطيش
الأولة غربتي، والتانية بلوتي، والتالتة كلمتي”
(أحمد فؤاد نجم – “الأرغول”)
رائع هذا الموّال الذي غنّاه الشيخ إمام على لحن بسيط وهو يحتضن عوده ويشدو بصوته الشجيّ. أذكر أنّني سمعت هذه الأغنية منذ نصف قرن عندما حضر الشيخ الظريف إلى طرابلس وغنّى أمام عشرات منّا في النادي الثقافي العربي. ما قصده الشاعر هو أنّ من يغدر لا يؤمن له ليحكم لأنّ طبعه سيجعل من الناس عرضة لغدره حتى وهو محتكم. ويساوي نجم هنا الغدّار بالندل الذي سيتحوّل إلى طاغية بمجرد أن يتمكّن من الحكم. لكنّه في النهاية يحثّ الأحرار على عدم التسليم للندل الغدّار في سعيهم للسلامة، لأنّهم سيصبحون حتماً مجرّد دواجن في مزرعة ستُذبح من دون مقاومة.
سياسة “العصا والجزرة”
ما لنا وأحمد فؤاد نجم وتحريضه المستمرّ على الطغاة، فقد دفع ثمن عصيانه بأن أصبح نزيل السجون الدائم، أكان في عصر عبد الناصر أم في عصر أنور السادات. الحديث هو الآن عن مفهوم “العصا والجزرة”. هو تعبير مجازي لاستخدام خليط من الإغراءات والعقاب للحثّ على السلوك المرغوب به في السياسة. تشير عبارة “العصا أو الجزرة” أحياناً إلى المفهوم الواقعي لقوّة الترغيب وقوّة الترهيب. الجزرة في هذا السياق قد تكون الوعد بتقديم مساعدات اقتصادية أو دبلوماسية أو رفع عقوبات بين الدول، أو إغراء حكّامها بأرباح شخصية أو بمنصب ما أو بالتملّص من الحساب على المستوى الدولي. بينما قد تكون العصا تهديداً بعمل عسكري أو حصار اقتصادي أو حجب مساعدات أو أيّ عقوبات أخرى.
البشر يتعامل بعضهم مع بعض على المبدأ ذاته بحكم طبيعتهم. أمّا الحالات النادرة من التبرّع دون مقابل، فإنّها عادة عكس الطبيعة
مصدر هذا التعبير هي أوروبا عندما كان الساسة يروّضون البغال والحمير باستخدام العصا والجزرة، بحيث يتمّ مسك الجزرة بيد ووضعها أمام الحمار والعصا بيدٍ أخرى، فسيسير الحمار ليلحق بالجزرة وإن تلكّأ يحثّه السائس بالعصا. ذكرت مصادر أخرى أنّ لهذا المصطلح أصلاً آخر، وهو أنّ الجزرة تُربط على عصا لتتدلّى أمام الحمار ليستمرّ في السير سعياً وراءها. لكنّ، بالإجمال، الثنائي المتناقض في العلاقة بين الجزرة والعصا هو الشائع.
بالمحصّلة، يبقى واقع واحد في الحالين، وهو أنّ البشر يتعامل بعضهم مع بعض على المبدأ ذاته بحكم طبيعتهم. أمّا الحالات النادرة من التبرّع دون مقابل، فإنّها عادة عكس الطبيعة. يبقى أنّ السعي للغلبة والسيطرة هو الغالب بشكل عام، وكما قال فيلسوف السياسة الأعظم توماس هوبس من أنّ من يحفظ العهود ويتحلّى بالكرم والوداعة والتضحية بالذات في كلّ الظروف، سيكون عادة فريسة للآخرين في حال الطبيعة.
الحزب ولبنان والعصا…
ما لنا ولكلّ تلك المقدّمات، فالحديث هنا عن سياسة الحزب في لبنان، وعن اتّهام كلّ من يعارض الحزب، بأيّ شكل من الأشكال، بكونه مؤيّداً للعدوّ وعدوانه المستدام على فلسطين وشعبها ومحيطها منذ أن زرع هذا المرض الخبيث في منطقتنا.
ما حاول ويحاول الحزب التمويه عنه بشكل دائم هو أنّ الخصام والعداوة ضدّه عند معظم اللبنانيين لا علاقة لها بمسألة مواجهة العدوّ، بل لأنّ هذه المواجهة يستخدمها الحزب كأداة للطغيان على الناس، في السياسة والأمن وفرض الإرادة بالإرهاب، واستتباع لبنان وأهله وأرواحهم وممتلكاتهم لنزوات مشروع ولاية الفقيه.
في الواقع، يرى الكثيرون منّا أنّ مسار الحزب ومرجعيّته في طهران لا يختلف بشيء عن سياسات الشيطان الأكبر، ولا إخوانه من الشياطين الأصغر، في السياسة. فللحزب هدف يريد أن يحقّقه في السيطرة والغلبة. ويكفي ذكر الشعار المستخدم والمأخوذ من سورة المائدة 56: “فإنّ حزب الله هم الغالبون”، ليتبيّن سعي الحزب إلى إضفاء القداسة على سعيه السياسي العسكري للسيطرة. في كلّ الأحوال، غالباً ما يستند معظم الساعين للسيطرة إلى مقدّس ما لتسويغ الظلم اللاحق بالضحايا من الطرفين، أي من جماعته وجماعة الأعداء، على طريق أن يرفع أحدهم راية النصر فوق الركام وفوق أجساد الضحايا، وهو يدّعي أنّه يكرّمهم بمنحهم مقام الشهادة.
قال فيلسوف السياسة الأعظم توماس هوبس من أنّ من يحفظ العهود ويتحلّى بالكرم والوداعة والتضحية بالذات في كلّ الظروف، سيكون عادة فريسة للآخرين في حال الطبيعة
لكن، بالعودة للوقائع، ما تزال ترنّ في أذني جملة قالها رئيس كتلة الحزب النيابية محمد رعد، بتوسّل غير معهود، متوجّهاً إلى معارضي حزبه، وهي: “خذوا فسادكم واتركوا لنا سلاحنا”. وكان الأمين العام للحزب سبق أن قال: “من أراد أن يسحب منّا سلاحنا فسنقطع يده ونقطع رأسه وننزع روحه”. مع أنّ من كان يهدّدهم هم ذاتهم من خاض معهم التحالف الرباعي في انتخابات 2005.
الجزرة… وفساد ساسة لبنان
هذه هي باختصار سياسة العصا والجزرة الناجحة. فالجزرة المحبّبة لدى السياسيين في لبنان تتمثّل بالفساد والألقاب. والعصا هي الموت بمتفجّرة على الطريق، أو كاتم صوت، أو بالحرمان من السلطة. وأهمّية كلّ ذلك هي الرسائل التي تُبعَث للآخرين لكي يتعلّموا الدروس. فاغتيال لقمان سليم كان رسالة لكلّ شيعي لبناني بالتزام الحدود المسموحة للعصيان والاعتراض. واغتيال وسام عيد ووسام الحسن كان رسالة لكلّ أمنيّ يخال نفسه محصّناً من العقاب أو قادراً على ممارسة واجباته الأمنية بشكل مهنيّ من دون مراعاة حاجات وخصوصيات الحزب.
إن كان اغتيال رفيق الحريري لم يكن كافياً لانصياع سعد الحريري في البداية، أتى اغتيال محمد شطح على عتبة بيت الوسط للمزيد من الفهم، وكانت النتيجة كما نعرفها. وإن كان سعد الحريري قاوم في البداية، لكنّ كلّ مرشّح أو رئيس للوزراء، فهم الرسالة مسبقاً وسار على هديها.
هذا اختصار شديد بخصوص العصيّ، وأمّا عن الجزر فحدّث ولا حرج. فلائحة رؤساء الجمهوريات، سابقين كانوا أو طامحين، تؤكّد أنّ “المؤمنين بنهج المقاومة” يكافأون بالمناصب الوهمية، لأنّها مثقلة بالشروط المسبقة. وتعطّل الانتخابات من أجلهم بانتظار إذعان الجميع بطريقة أو بأخرى، أي بالسياسة ذاتها للعصا والجزرة.
إن كان اغتيال رفيق الحريري لم يكن كافياً لانصياع سعد الحريري في البداية، أتى اغتيال محمد شطح على عتبة بيت الوسط للمزيد من الفهم، وكانت النتيجة كما نعرفها
هذا مع العلم أنّ كلّ تلك الجزرات المنثورة أمام قطعان الساعين وراء المناصب والمكاسب، ما هي إلا سراب لأنّها لا طعم لها ولا رائحة ولا فائدة غذائية منها. لكنّ الأهمّ هو أنّه عندما يتمكّن الحزب من فرض ولايته الكاملة على لبنان، يكفي مراجعة ما فعله الوليّ الفقيه في إيران مع حلفائه في الثورة في إيران، من غير أتباعه، بمجرّد أن دان له الحكم بالمطلق، وصار حتى السجن غير كافٍ لإسكات المعارضين. فكانت المشانق الجماعية مصير كلّ من يُشكّ في ولائه الكامل. أمّا من ناحية هوامش الحرّية الشخصية، فنذكّر الجميع بمصير “مهسا أميني”.
تمرّ اليوم المنطقة ولبنان في مرحلة مصيرية قد تقرّر مصائر الأوطان وحدودها وطرائق حكمها. وإن توقّف الساعون إلى الحرّية عن المواجهة والاتّحاد، فسيتمكّن الغدر من التسلّل من خلال التسويات لمجرّد غفلة الأحرار.
إقرأ أيضاً: كيف استدرج لبنان “طوفانه”؟