لم تكن علاقة السيّد حسن نصرالله مع سُنّة لبنان على وتيرة واحدة من الهدوء أو الاضطراب في يوم من الأيام. العلاقة دائماً كانت رهينة مواقف وسلوك السيّد لا أفعال وممارسات السُّنّة كمجتمع وكتلة إسلامية شريكة في الوطن والإسلام.
بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 بدأ الاحتكاك المتوتّر بين سُنّة لبنان وحركة أمل ممثّلة الأكثرية الشيعية. كانت الخلافات تتمحور حول صغائر الأمور، عمود للكهرباء أو جدار منزل ودكّان يجري الاعتداء عليه براية ما أو بشعار يشوّه الألوان.
كانت المضايقات، التي يشتكي منها السُّنّة، وتحديداً في بيروت، تتمحور في الزواريب والأزقّة والساحات العامّة. إلا أنّ هذا الامتعاض السُّنّي لم يتحوّل إلى امتعاض سنّيّ شيعي، بل بقي محصوراً بكونه امتعاضاً سنّياً من ممارسات عناصر حركة أمل. كان البيارتة وهم في تماسّ مباشر مع هذه الأزمة يردّدون في مجالسهم ونقاشاتهم: “الحزب أوادم غير شباب الحركة”. كان الحزب في حينه في بداياته التأسيسية وشبابه المطرودون من الحسينيات الموالية للحركة يلجأون إلى مساجد السُّنّة مرتدين القميص المقفلة أزراره حتى الاختناق والمسدل فوق سراويلهم طلباً للحشمة والتزاماً بمبادئ الأخلاق.
تواصل الاستحسان بين السُّنّة والحزب. الفضل في ذلك لصبيانية بعض كوادر الحركة التي دخلت في عصر تكاثر المسؤولين، حتى انتشرت النكات المعلّقة على ذلك، وتقول إحداها إنّه “ليس في حركة أمل عناصر بل مسؤولون فقط. من يحمل صور الشهداء مسؤول، ومن يحمل وعاء الغراء لزوم إلصاق الصور مسؤول، ومن يُمسك السُلّم لتعليق الصور مسؤول، ومن يضع الصور على الجدران مسؤول بدوره”.
ارتبطت تلك المرحلة باسم الإمام الراحل السيد محمد حسين فضل الله على أنّه المرشد الروحي للحزب. إمام جامع الحسنين وخطيبه كان إماماً وخطيباً في مساجد السُّنّة إن حضر. يتناقلون محاضراته وخطبه في منازلهم وجلساتهم. حتى وصل الأمر ببعض مشايخ السُّنّة أن نظروا للسيّد فضل الله على أنّه خطر على البيئة وتوجّهاتها والتزاماتها المذهبية.
تناسى الكثير من السُّنّة ما فعله السّيد حسن وتعاطفوا معه من أجل غزة والشعب الفلسطيني في مواجهة العدوان
الحزب يدخل الدّولة
اغتيل الأمين العامّ للحزب السيّد عباس الموسوي في 16 شباط 1992 على يد العدوّ الإسرائيلي فانتخب السيّد حسن نصر الله أميناً عامّاً للحزب. فكانت انطلاقة الحزب نحو الدولة والقرار بدخول مجلس النواب ومجلس الوزراء والدوائر العامة والخاصة وصولاً إلى بلدية بيروت ومخاتيرها. اتّخذ هذا الدخول شكل المشاركة بالشكل لكنّه اتّخذ صفة الهيمنة بالمضمون، بخاصة أنّ للحزب سلاحه وميليشياته وتنظيماته العسكرية والأمنية. غفل الحزب عن أنّ الدولة اختصاص سنّي بامتياز. وغفل عن أنّ مزاحمة السُّنّة في مواقعهم وكينونتهم لا تعني إسقاطهم، بل تعني سقوط تلك المواقع والكينونات.
اغتيل الرئيس رفيق الحريري ومعه الدولة فكان الزلزال في 14 شباط 2005. لم تشفع للسيّد وحزبه لقاءات الرئيس الشهيد العديدة مع نصرالله واحتساء الشاي وتناول التمر والمكسّرات قبل جريمة الاغتيال، ولا ساعدت في أن تحجب وتبدّد شكوك السُّنّة بتورّط في الجريمة. هذه الشكوك عزّزتها ملامح الارتباك والتردّد التي أصابت الحزب والبيئة الشيعية من المجلس الشيعي الأعلى وانتهاء بآخر مجموعة حسينية.
ارتبك الجميع في التعاطي مع هول الزلزال. جاءت التعزية متأخّرة متعثّرة، والأنكى من كلّ ذلك أنّ السيّد حشد ما يمكن حشده في 8 آذار 2005 في ساحة رياض الصلح قائلاً للّبنانيين المنكوبين باستشهاد الرفيق: “سوريا الأسد باقية وما حصل قد حصل وغداً يوم آخر، لا يمكنكم أن تغيّروا نظام البلد بوشاح أحمر يلفّ أعناقكم”. جاء الردّ على السيّد في 14 آذار. الحشد الجماهيري في ساحة الشهداء غير المسبوق ما كان ليتمّ بفعل الباصات الآتية عبر المحافظات مهما كثُرت، بل جاء الحشد بسبب نزوح المدينة بشبابها وشيبها ونسائها وأطفالها، تلك المدينة التي يُشكّل السُّنّة منها ثلاثة أرباع.
بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 بدأ الاحتكاك المتوتّر بين سُنّة لبنان وحركة أمل ممثّلة الأكثرية الشيعية
حلف الأقلّيّات..
توالت الأحداث والأيام وظهر السيّد في 6 شباط 2006 في كنيسة مار مخايل عند مدخل منطقة الشياح موقّعاً على مذكّرة تفاهم مع العماد ميشال عون. الاتفاق بتفاصيله محلّياً وبعنوانه العريض اسمه تحالف الأقلّيات. تعمّقت الجراح وتباعد الإخوان. لم يعد ما بين السيّد وسُنّة لبنان “رمية حجر” بل نشأت أنهار ووديان وتباعدت المسافات أكثر في 7 أيار 2008. انتهكت بيروت والشويفات وبشامون ودير قوبل أرض نزوح السُّنّة من العاصمة. وقبل الاجتياح كان الاعتصام حول السراي الحكومي، أي حول أمّ مؤسّسات الدولة التي قلنا عنها في أوّل المقال كينونة سُنّة لبنان. ثمّ كانت عملية القمصان السود عام 2010 وأُسقطت حكومة سعد الحريري عبر الوزير الملك بدعة الحزب وسيّده في ذاك الزمان ليقفز بنا السيّد بعد ذلك إلى سوريا، وهناك كانت الطامة الكبرى والخطأ التاريخي كما وصفه وليد جنبلاط في حينه مطلقاً نصيحة آخر الزمان.
سفكت دماء وهُدمت منازل ونُسف مسجد خالد بن الوليد في حمص، وانتهك المسجد الأموي في دمشق برمزيّته واحتلّت ساحاته مواكب اللطميات، وشُتم بني أميّة من على منبرهم التاريخي ونُبشت قبور الأحقاد التي نساها أهل دمشق منذ مئات السنوات.
الطوفان وذاكرة السّمكة
بعد سلسلة من السنوات طاف فيها الحزب بين العواصم العربية مقاتلاً من دمشق إلى بغداد فصنعاء، جاءت في 7 أكتوبر 2023 في غزة عملية الطوفان. بعدها ببضعة أسابيع كان لي لقاء في عين التينة مع الرئيس نبيه بري خلال “كزدورته” الشهيرة في الصالة الكبرى حيث توقّف فجأة محدّقاً بي قائلاً: “الفرصة كبيرة وتاريخية بأن يجتمع السُّنّة والشيعة وأن يتجاوزوا أزماتهم. غزة قادرة أن تجمعنا في لبنان..”.
لم تكن علاقة السيّد حسن نصرالله مع سُنّة لبنان على وتيرة واحدة من الهدوء أو الاضطراب في يوم من الأيام
تناسى الكثير من السُّنّة ما فعله السّيد حسن وتعاطفوا معه من أجل غزة والشعب الفلسطيني في مواجهة العدوان، حتى الكثرة منهم ممّن وجدوا صعوبة في النسيان انكفأوا عن الانتقاد والخصومة، متسلّحين بمقولة لا صوت يعلو في زمن مواجهة الأعداء. سُنّة لبنان اعتادوا على تجاوز الضغائن والأحقاد. يمتلكون ذاكرة تشبه ذاكرة السمكة، التي تنسى أين وضعت بويضاتها وتنطلق لا تلتفت إلى الوراء بل تنظر إلى الأمام.
إقرأ أيضاً: من اتّخذ قرار الاغتيال؟ وما هي أعراض “اليوم التّالي”؟
اغتالت إسرائيل السيّد حسن نصرالله. نعم، لقد حزن سُنّة لبنان، هذه عوايدهم وأخلاقهم، وتحديداً عندما يكون القاتل العدوّ الإسرائيلي، ومَن أكثر من السُّنّة يعرف حقيقة هذا العدوّ وله في ذاكرتهم الكثير الكثير من قصص العدوان.
لمتابعة الكاتب على X: