لماذا أنشأت إيران الحزب؟ ولماذا سطع ضوؤه دون التنظيمات الإيرانية الأخرى؟ وماذا عنت كاريزما نصرالله الساطعة؟ وماذا يبقى للتاريخ من مغامرة الإمبراطورية الإيرانية؟ وما هي حظوظ لبنان هذه المرّة في الخروج من المأزق العميق؟ هو يومٌ طويلٌ في حياةٍ قصيرة.
يتحدّث فرنان بروديل المؤرّخ الفرنسي الكبير عن “المديات الطويلة” التي تصنع التاريخ أو يتكوّن خلالها التاريخ الذي لا يمكن تحويله إلى ماضٍ. وإذا كان تاريخ الثورة الإسلامية في إيران هو تاريخ المديات المتوسّطة أو الطويلة، فإنّ حسن نصرالله هو جزءٌ من هذا التاريخ وربّما سيبقى كذلك إلى آمادٍ، سواء في وعي الشيعة العرب أو في وعي العرب والإيرانيين. هناك فرقٌ كبيرٌ بينه وبين قاسم سليماني على الرغم من اشتراكهما في الكاريزما، وأمّا وراء ذلك أو فوقه فسمعة السادة وقداستهم، وموهبة الخطابة، ثمّ ذلك الامتداد في أخلاد الخصوم والأنصار وواقعهم، وما فاقه في هذا النموذج غير الخميني. يقال اليوم إنّ نصرالله ليس مسؤولاً وحده عن النجاح، بل هناك مؤسّسة أو مؤسّسات وطرف راعٍ كبير. لكنّه رمزٌ، ونصف النجاح هو مسؤولية هذا الرمز الذي لا يشاركه في الضخامة والتأثير حتى شخصيات الثورة الإيرانية.
الإسرائيليّون والأميركيّون يعرفون
ألم يكن الإسرائيليون يعرفون ذلك، وكذلك الأميركيون، وكم سيكون لاغتياله من الوقع والتأثير؟ كلا الطرفين كان يعرف على الأقلّ من عام 2006، لكن اختلف التقدير. فالإسرائيلي كان منذ البداية يعتبره خطراً استراتيجياً يجب إزالته، ويعود ذلك للقتال المباشر والمستمرّ منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي. أمّا الأميركيون فكان تقديرهم مختلفاً لأنّهم ربطوا وجوده وتأثيره بوجود الثورة الإسلامية أو تأثيرها. ولذلك كان السعي الدائم للتصالح أو التهادُن هو عقد صفقة مع إيران، حول الإشكاليّات معها، وحول وجود الحزب وفعّالياته في سورية والعراق واليمن وربّما في أقطارٍ أخرى عربية ودولية. كانت الولايات المتحدة تريد صفقةً شاملةً تُنهي المشكلات مرّةً واحدةً حتى لو بتكاليف باهظة. أمّا الإيرانيون فكانوا يريدون صفقات متعدّدة، كلّما نجحت صفقة جرى الدخول في الصفقة التالية.
ما يزال وجود الحزب ضرورياً من أجل الشبكة الشاسعة التي أنشأها بالداخل والخارج
منذ عام 2000 اعتقد الأميركيون أنّه ما عادت هناك عقبات أمام صفقةٍ كبيرةٍ بشأن الحزب. ووقتها كان الإسرائيليون موافقين بعد الكثير من التحقّق. لكنّ إيران كانت تمتلك للحزب خططاً ومستقبلاً آخر، ومنه التغلغل في دول الجوار العربي والتواصل الأوثق مع الجماعات والمجموعات الشيعية في العالم العربي والعالم بعدما تنبّهت إلى أهمّية الهجرة اللبنانية إلى أميركا اللاتينية وإفريقيا.
كنت أحضر عام 1990 مؤتمراً ببوسطن بالولايات المتحدة عندما قال أحد المحاضرين إنّ إيران تُنشئ تنظيماً عقائدياً رهيباً في لبنان. وكان دليله على العقائدية: عمليات الحزب ضدّ الجنود الأميركيين والفرنسيين (1983) والسفارة الأميركية ببيروت، وإقدام التنظيم على اغتيال شيوعيين شيعة بالحجّة العقائدية. فلاحظ أحد الحاضرين أنّ المقتولين بينهم مسيحيون، والدافع للقتل أنّ هؤلاء شكّلوا كتائب لمقاتلة إسرائيل، والحزب أو التنظيم يريد أن يحصر الأمر بمجاهديه. وبعدها بقليل بدأ التنافس على الأرض في الجنوب بين الحزب وحركة أمل، وكان في جانبٍ منه تنافساً على الشيعة بين إيران وسورية.
أذكر أيضاً أنّني شهدتُ نقاشاً بالولايات المتحدة عن نموّ الحزب بالداخل اللبناني وإمكان أن يكون لميليشيا مماثلة بالعراق بعد الغزو الأميركي نجاح مماثل. قالوا يومها إنّ التنظيمات الإيرانية المعارضة خارج لبنان كانت في المنافي، وأمّا في لبنان فقد ظهر التنظيم الإيراني بالداخل اللبناني (منطقة بعلبك) لضعف الحكومة وللغزو الإسرائيلي وللسيطرة السورية بالمنطقة. وما دام قد نجح فستعمد إيران إلى تكرار التجربة بالعراق في ظلّ الغزو الأميركي الذي سيزول خلال عشر سنوات أو أقلّ، لكن من يحكم؟ الذين عادوا من المنافي أم الذين عاشوا في ظلّ صدام؟! تنافست سائر الشخصيات بعد الإرضاء الأميركي على إرضاء إيران، فظلّ الأمر بيد العائدين من المنافي إلى عهد رئيس الوزراء الحالي السوداني.
صعد حسن نصرالله صعوداً صاروخيّاً أدّى إلى تصديع عدّة كيانات عربية في مقدّمها لبنان. وسقط شهيد هذه المغامرة التاريخية
بشّار تلميذاً لنصرالله
في كلّ زاوية فيها شيعة ببلاد الشام والعراق والجزيرة أسّست إيران تنظيمات. لكن منذ وقت مبكر وبسبب القدرة على الحركة بين إيران ولبنان، صار الحزب هو الأبرز لتوافر عدّة شروط: غياب الزعامة الشيعية التقليدية القويّة بلبنان بعد الصدر وفضل الله، والولاء المشهود لخامنئي والحرس الثوري، والانفراد بالقتال ضدّ إسرائيل، وانتشار اللبنانيين الشيعة في المهاجر وإفادتهم من التجربة الفلسطينية لهذه الناحية. وبسبب “العمليات الجهادية” المتكاثرة، والسياسة الإسرائيلية المتغيّرة. قرّر الجيش الإسرائيلي عام 2000 الانسحاب من لبنان، فحُسب ذلك لمصلحة الحزب وصار نصرالله بطلاً لا يُشقُّ له غبار. وسرعان ما غاب حافظ الأسد، فبدا بشار تلميذاً لحسن نصرالله كما زعم، مع أنّ العرب والغربيين (وبخاصة الفرنسيون) هم الذين سهّلوا استخلافه.
وبين عامي 2006 (الحرب مع إسرائيل) و2008 (احتلال بيروت) وبينهما التحالف مع الجنرال عون الطرف السياسي المسيحي الرئيسي (2007). صار نصرالله سيّد الساحة اللبنانية. وتحت وطأة الرعب والاغتيالات التي امتدّت من 2005 (اغتيال رفيق الحريري) إلى 2013 (اغتيال اللواء وسام الحسن والوزير محمد شطح) وبالاحتضان الإيراني تجاوز نفوذ الحزب ونصرالله لبنان إلى سورية والعراق واليمن، مع أذرع مالية وعلاقات دولية في ثلاث أو أربع قارّات.
ماذا بعد الاغتيال؟
ماذا يحدث بعد اغتيال نصرالله وكلّ قيادات الحزب؟ منذ بدء الحرب على غزة التي بادرت إليها حماس وتبعها الحزب، بدت إيران، على عكس السابق، شديدة التردّد. فهي لا تريد الحرب الشاملة التي لا يريدها الأميركيون أيضاً ولا الأوروبيون. لكن عندما أطلق بايدن مبادرته لوقف الحرب في تموز الماضي، سارعت إيران للاستحثاث على الاستمرار. فماذا كانت حسابات نصرالله؟ هل تظلّ الحرب محدودة، ويخرج الحزب في النهاية منتصراً ولو في الإعلام كعام 2006؟ حماس قاتلت حتى النهاية الانتحارية ولم تهتمّ لحيوات المليونَي فلسطيني. فماذا كانت تقديرات الحزب؟ لا شكّ أنّه أدرك التفوّق الإسرائيلي، لكنّه لم يستطع العودة أو التوقّف تجنّباً لعار الهزيمة التي لا يتحمّلها. ولا شكّ وعلى الرغم من حرب الاغتيالات الهائلة أنّ نصرالله ما شعر بقدرة الإسرائيليين على اغتياله (!).
قضت الاغتيالات على كلّ قيادات الصفّ الأول والثاني. ولن تترك إيران الحزب بعد الاستثمار الهائل وستصبح أكثر سيطرة على مقاديره وقراراته
قضت الاغتيالات على كلّ قيادات الصفّ الأول والثاني. ولن تترك إيران الحزب بعد الاستثمار الهائل وستصبح أكثر سيطرة على مقاديره وقراراته. وما يزال وجود الحزب ضرورياً من أجل الشبكة الشاسعة التي أنشأها بالداخل والخارج، وربّما ما يزال له دور في مماحكات النووي. فهل يمكن التوفيق بين ثلاثة أمور: التواصل مع الولايات المتحدة (وإسرائيل)، والحفاظ على الوجود المتأيرن بالمنطقة، ولو بدون معارك “جهادية”، والإبقاء على الكيان اللبناني؟
الحاجة إلى رفيق الحريري
تحتاج هذه المعادلة الصعبة إلى أربعة أمور:
– الأول: وجود نخبة سياسية فاعلة ذات علاقات عربية ودولية مثل رفيق الحريري في التسعينيات وقد يكون نبيه بري مؤهّلاً لذلك.
– الثاني: توافر عزيمة دولية على إنقاذ لبنان بدون إذلال الحزب تحت غطاء إنقاذ القرار الدولي 1701 (الانسحاب لما وراء الليطاني ضمناً).
– الثالث: الموافقة الإيرانية على التهدئة من طريق التفاوض والمساومة وفرنسا مؤهّلة لذلك.
– الرابع: أن يتمكّن اللبنانيون (بقيادة نبيه بري أيضاً) من انتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة وفاق وطني لإعادة الإعمار.
لا شيء من هذه الشروط حاضر بالكامل، وبخاصّةٍ في الجانب الأميركي المنهمك بالانتخابات. كما أنّ الإيرانيين (والحزب) لا يستطيعون التسليم علناً بإعادة الأمور إلى طبيعتها مع ذهاب الهيبة، وانتشار الإحساس بالخيبة بعد الانتفاخ الكبير. هي هزيمةٌ في قسوة هزيمة 1988 على إيران وقبول وقف إطلاق النار مع عراق صدّام. هل بقيت هناك أَوهام؟!
إقرأ أيضاً: من اتّخذ قرار الاغتيال؟ وما هي أعراض “اليوم التّالي”؟
صعد حسن نصرالله صعوداً صاروخيّاً أدّى إلى تصديع عدّة كيانات عربية في مقدّمها لبنان. وسقط شهيد هذه المغامرة التاريخية للإمبراطورية الإيرانية في صراعها مع الولايات المتحدة عبر قرابة خمسة عقود. نصرالله وكيل إيران، وإسرائيل وكيل أميركا. ومعروف عن اليهود أنّهم لا يتحمّلون الهزيمة، لكنّهم أيضاً لا يتحمّلون الانتصار ويعتبرونه تفويضاً بإبادة العدو.
أمّا شمس حسن نصرالله الساطعة فهي بمنزلة يومٍ طويلٍ في حياةٍ قصيرة.
لمتابعة الكاتب على X: