تتوالى الجهود الأميركيّة والعربيّة والغربيّة في أروقة الأمم المُتحدة في نيويورك لمحاولة التّوصّل إلى اتفاق هُدنة مؤقّتة بين إسرائيل والحزبِ، هُدنة تُعدّ بدايةً لمفاوضات صعبة وشاقّة حول تطبيق قرار مجلس الأمن 1701، وحسم مسألة الحدود البرّية بين لبنان وإسرائيل، وخاصة مزارع شبعا التي يقول الأميركيّون إنّها ينبغي أن تُناقش مع الجانب السّوريّ، وهذا مستبعدٌ حتّى السّاعة.
لا تُبدي المصادر المُواكبة للمفاوضات تفاؤلاً بشأنها. وكذلك تعتبر أنّ الأمل لا يزال موجوداً. ذلكَ أنّ إسرائيل تُصرّ على فصلِ جبهة جنوب لبنان عن جبهة غزّة، وأنّ الحزبَ يُصرّ على تلازمِ الجبهتيْن عسكريّاً وسياسيّاً. يبقى أنّ الجبهتيْن مُختلفتان من حيث أسس التّفاوض السّياسيّ، وذلكَ لاعتباراتٍ عديدة…. فماذا في كواليس المفاوضات؟ ولماذا تختلف مفاوضات لبنان عن غزّة؟
منذ السّاعات الأولى التي بدأ فيها الجيش الإسرائيليّ تصعيد الضّربات الجويّة ضدّ جنوب لبنان ومناطق البقاع يومَ الإثنين الماضي، بدأت المُحرّكات الدّبلوماسيّة تنشطُ في محاولةٍ لوقف تدحرج الأمور نحوَ حربٍ أوسع في المنطقة.
بحسب معلومات “أساس” من مصادر عربيّة وغربيّة مواكبة للمفاوضات، فإنّ الفرنسيين كانوا أوّل من دخلَ على الخطّ الدّبلوماسيّ، على الرّغم من أنّ الولايات المُتحدة لم تكن مُتحمّسة يومَ الإثنين الماضي للدّخول على الخطّ السّياسيّ، على اعتبار أنّ الحزبَ كان يرفضُ كلّ المُقترحات التي حملها الموفد آموس هوكستين منذ تشرين الأوّل الماضي وصولاً إلى زيارته الأخيرة لبيروت وتل أبيب عشيّة تصاعدِ المواجهات.
تتوالى الجهود الأميركيّة والعربيّة والغربيّة في أروقة الأمم المُتحدة في نيويورك لمحاولة التّوصّل إلى اتفاق هُدنة مؤقّتة بين إسرائيل والحزبِ
ماكرون أقنع بايدن
استطاع الفرنسيّون إقناع الأميركيين بالدّخول على خطّ التفاوض، على اعتبار أنّه لا يزال هناك فرصة لإقناع اللبنانيين بتطبيق القرار 1701 والدّخول في مفاوضات حول آليّة التطبيق. كما استغلّ الرّئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون وجوده في نيويورك للضّغط على الأميركيين للبدءِ في محاولةٍ جدّية توصل إلى هدنة في جنوب لبنان.
على إثر التّواصل الذي حصلَ بين ماكرون والرّئيس الأميركيّ جو بايدن، كلّفَ الأخير المبعوث الخاصّ آموس هوكستين ومنسّق الشّرق الأوسط في مجلس الأمن القومي بريت ماكغورك التواصل مع تل أبيب لصياغة ورقة “النّداء لوقف إطلاق النّار”.
تواصلَ الفريق الأميركيّ – الفرنسيّ مع وزير الشّؤون الاستراتيجيّة الإسرائيليّ رون دريمر الذي فوّضه رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو التّفاوضَ ومنحه الضّوء الأخضر لذلك ما دام عنوان الورقة هو تطبيق القرار 1701، الذي يعتبرُ نتنياهو تطبيقه بحرفيّته تحقيقاً لهدفِ حربه (إعادة المستوطنين إلى الشّمال).
استطاع الفرنسيّون إقناع الأميركيين بالدّخول على خطّ التفاوض، على اعتبار أنّه لا يزال هناك فرصة لإقناع اللبنانيين بتطبيق القرار 1701
نتنياهو موافق… لكنّه يُناوِر
تذكر المصادر لـ”أساس” أنّ دريمر أبلغ موافقة رئيس حكومته على الورقة، وأنّ تل أبيب جاهزة للمضيّ في الحلّ الدّبلوماسيّ ما دام الحلّ يضمنُ تحقيق هدف الحرب. لكنّ المصادر تؤكّد أنّ نتنياهو تعمّدَ تسريب الخبر في الإعلام ليُلقي عن عاتقه إفشال الاتفاق. إذ كانَ وزير الماليّة بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن الدّاخليّ إيتامار بن غفير قد أعلنا نيّتهما الانسحاب من الائتلاف الحكوميّ ومعهم وزراء من حزب الليكود اعتراضاً على مسودة الاتفاق. وذلكَ أعطى نتنياهو ما يريده للتّنصّل من الاتفاق.
لم ينتظر دريمر طويلاً، فعادَ وأبلغَ الوسطاء أنّ حكومته ترفضُ الورقة المطروحة ما لم تنصّ صراحةً على نزعِ سلاح الحزبِ في منطقة جنوب الليطاني، مع ضمانات دوليّة ورسميّة لبنانيّة بذلك. على إثرِ ذلكَ تداعى مديرو استخبارات أميركا وفرنسا وقطر وتركيا إلى اجتماعٍ على هامش الجمعيّة العامّة للأمم المُتحدة في محاولةٍ لدفع المفاوضات قُدماً مجدّداً.
تقرّرَ في الاجتماعِ أن يستمرّ الفرنسيّون والأميركيّون في مساعيهم مع تل أبيب بعد وصول بنيامين نتنياهو إلى نيويورك. وتتولّى قطر وتركيا التّواصل مع المسؤولين الإيرانيين لمحاولة تليين موقف الحزب.
تذكر المصادر لـ”أساس” أنّ دريمر أبلغ موافقة رئيس حكومته على الورقة، وأنّ تل أبيب جاهزة للمضيّ في الحلّ الدّبلوماسيّ ما دام الحلّ يضمنُ تحقيق هدف الحرب
نتنياهو يتسلّح بشعبه وجيشه
لكنّ المفاوضات مرهونة بعِقدٍ هي أبعدُ ممّا يحصل من كلامٍ في نيويورك:
1- يتسلّح بنيامين نتنياهو بدعمٍ شعبيّ وسياسيّ لعمليّته ضدّ الحزبِ في لبنان، وذلكَ بعدما أعلن زعيما المُعارضة يائير لابيد وبيني غانتس تأييدهما بعدما اختلفا مع نتنياهو حول الحرب الدّائرة في غزّة. فضلاً عن التأييد الذي يناله من مجالس المستوطنات في الشّمال.
2- أظهرَت الاستطلاعات الإسرائيليّة أنّ شعبيّة نتنياهو ارتفَعَت في الأسابيع الأخيرة، وباتَ حزب الليكود يتقدّم على حزب “أزرق أبيض” الذي يتزعّمه بيني غانتس.
3- يُريدُ نتنياهو ترميم صورة الرّدع الإسرائيليّ إلى أبعد الحدود بعدَ الضّربة التي تلقّتها هذه الصّورة يومَ السّابع من تشرين الأوّل الماضي، بعد عمليّة حركة “حماس”.
4- يرى نتنياهو أنّ أمامه فرصةً ليضربَ ما يسمّيه بـ”المشروع الإيرانيّ”، وللمُضيّ إلى الأمام بعيداً عن ملفّ قطاع غزّة، حيث تتمركزُ قوّاته في محورَيْ “نتساريم” و”فيلادلفي”.
5- يُصرّ الحزبُ في لبنان على التّمسّك بعنوان الحرب التي دخلها في 8 تشرين الأوّل الماضي تحت عنوان “المُشاغلة والإسناد”، ذلكَ أنّ أيّ تنازلٍ من قبله تحت هذا السّقف، أي من دون ذكرِ مسألة غزّة في أيّ اتفاقٍ، سيُعتبر ضربةً سياسيّة للحزبِ والمحور بعد سلسلة الضّربات القاسية التي تلقّاها الحزبُ في تفجير أجهزة الاتصالات واغتيال قادته العسكريين ومسؤولي الوحدات الأساسيين.
أظهرَت الاستطلاعات الإسرائيليّة أنّ شعبيّة نتنياهو ارتفَعَت في الأسابيع الأخيرة، وباتَ حزب الليكود يتقدّم على حزب “أزرق أبيض” الذي يتزعّمه بيني غانتس
أين نختلف عن غزّة؟
ترى المصادر أنّ المفاوضات بشأن لبنان تختلفُ عن تلكَ الجارية في غزّة. وهذا يُبقي بصيصَ أملٍ أن تصلَ إلى نتيجةٍ في حال قرّرَ الحزبُ الوقوفَ خلف الدّولة اللبنانيّة في قرارها، كما سبق أن فعلَ مع ملفّ ترسيم الحدود البحريّة قبل عامَيْن.
أسباب اختلاف شكل المفاوضات هي الآتية:
1- استطاع نتنياهو أن يحشدَ دعماً أميركيّاً وغربيّاً واسعاً لحربه على غزّة. أمّا في الحربِ على لبنان، فلم يلقَ الدّعمَ نفسه. ففرنسا مثلاً اقترحت بعد “السّابع من أكتوبر” تشكيل تحالفٍ دوليّ لمحاربة حماس كالذي أنشِئَ لقتال داعش. أمّا في لبنان فكان موقفها مغايراً. وخير دليلٍ على ذلك المكالمة الهاتفيّة “الحامية” بين ماكرون ونتنياهو عشيّة تصعيد الأعمال العسكريّة في الجنوب والبقاع.
2- في الحالة اللبنانيّة لا يوجَد أسرى أو رهائن إسرائيليّون ليُحاربَ نتنياهو من أجل تحريرهم. كما أنّ هدفه المُعلن حتّى السّاعة هو إعادة المستوطنين إلى الشّمال وليسَ القضاء على الحزبِ كما كان هدفه المُعلن في غزّة القضاء على حماس.
3- على الجبهة اللبنانيّة تُفاوض الحكومة انطلاقاً من موافقتها على قرار مجلس الأمن 1701، على عكسِ جبهة غزّة التي تُفاوض فيها حركة حماس، وهي ليسَت مؤسّسة رسميّة.
4- ينظر ممثّلو الدّول العربيّة في نيويورك على أنّ ما يحصل في لبنان أخطر بكثير ممّا يحصل في قطاع غزّة على الأمن الإقليميّ والأمن القوميّ العربيّ. ولهذا تنشطُ محرّكات أكثر من دولة عربيّة في محاولة لكبح جماح آلة الحرب الإسرائيليّة في لبنان.
إقرأ أيضاً: كواليس نيويورك: التسوية عالقة عند “ربط المسارَيْن”
لا أحد يستطيع أن يضمنَ ما يجول في بال نتنياهو. فالوسطاء يخشون من أن يُناوِرَ تماماً كما فعلَ في غزّة، ويسعى إلى تغيير الخرائط السّياسيّة قبل موعد الانتخابات الأميركيّة. فهو يُدركُ أنّ من سيدخل البيت الأبيضَ، أكان دونالد ترامب أو كامالا هاريس، سيعمل من اللحظة الأولى على وقف الجبهات المُشتعلة في الشّرق الأوسط. وذلكَ بعد العجز الذي بدا من إدارة جو بايدن في عامها الأخير عن إطفاء جبهة غزّة، وبدأ يظهر العجز عينه على جبهة لبنان.
لمتابعة الكاتب على X: